عمر الشنيطي يكتب.. "التضخم ..القنبلة الموقوتة!!"
هذا المقال، كتبه عمر الشنيطي، المدير التنفيذي لمجموعة مالتيبلز للاستثمار، وهو يعبر عن رأيه ولا يعبر بالضرورة عن رأي الشبكة.
لا يتوقف الناس في مصر عن الشكوى من ارتفاع الأسعار ولا ينطبق ذلك على محدودي الدخل بل امتد للطبقات الميسورة. لكن هل هذا الكلام حقيقي؟ للأسف نعم، وهو ما أكده الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء مشيراً إلى ارتفاع معدل التضخم الشهري في يوليو الماضي بنسبة 3.3 ٪ وهو أعلى معدل له منذ منتصف 2008، بسبب رفع أسعار الطاقة، ثم استمر هذا الارتفاع في شهري أغسطس وسبتمبر لكن بمعدلات أقل، تقارب 1٪ شهرياً.ودائما ما يُسلط الضوء على التضخم حتى أن البنوك المركزية على مستوى العالم، والمنوطة بإدارة السياسية النقدية للتوزان بين الحد من البطالة والتضخم، دائماً ما تضع استقرار الأسعار على رأس أولوياتها فيما يعرف باستهداف التضخم. لكن هل التضخم مهم لهذه الدرجة؟
في كتابه "مبادئ الاقتصاد"، يشير بين برنانكي، المحافظ السابق للاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الامريكي) إلى أن تفاقم التضخم شديد الحساسية لما له من عواقب جمة:
الأولى: منظومة الأسعار: يؤدي التضخم إلى اضطراب في منظومة الأسعار حيث يصبح من الصعب على المنتجين تحديد تكلفتهم بشكل دقيق مما يؤدي إلى تغيرات كبيرة في مستوى الأسعار.
الثانية: الاحتفاظ بالنقود: حين يرتفع معدل التضخم، يشعر الأفراد بالانخفاض المتوقع في دخولهم وثرواتهم ولذلك يفضلون التراجع عن الصرف تحسباً للمستقبل مما يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي.
الثالثة: توزيع الدخل: يؤثر التضخم سلباً على أصحاب الدخول الثابتة كأرباح الودائع مما يؤدي إلى فرض ضريبة غير مباشرة على المودعين في البنوك والتي تقلل قيمة مدخراتهم بمرور الوقت بينما يستفيد من ذلك المقترضين من البنوك الذين تقل قيمة ما عليهم تسديده مستقبلا فيما يمكن وصفه بإعادة توزيع للدخل بين المودعين والمقترضين.
الرابعة: استثمار الشركات: مع ارتفاع معدلات التضخم، يصبح من الصعب على الشركات التخطيط على المدى الطويل لمستوى مبيعاتهم وتكاليفهم وكذلك استثماراتهم مما يؤدي إلى تراجع استثمار الشركات ومن ثم تراجع النمو الاقتصادي.
وبالنظر للحالة المصرية، فإن الاقتصاد يشهد موجة من التضخم كما رصدتها الأرقام الرسمية، لكن هذه الموجة ليست مفاجئة حيث أن الاقتصاد شهد ثلاثة تطورات رئيسية منذ الثورة كفيلة برفع معدلات التضخم:
الأول: أسعار الطاقة:
قامت الحكومة برفع أسعار الطاقة في مطلع الصيف الماضي لخفض دعم المواد البترولية في محاولة للسيطرة على عجز الموازنة المتصاعد منذ الثورة، وهو ما انعكس على ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات.
الثاني: عجز الموازنة:
مع ارتفاع عجز الموازنة، توسعت الحكومة في الاقتراض المحلي من البنوك والمؤسسات المالية المحلية حيث أن المساعدات الخارجية التي تلقتها مصر في العامين الماضيين والتي تبدو كبيرة لم تغطى إلا جزءاً محدوداً من العجز. ومع ارتفاع حجم الدين المحلي، والذي قارب إجمالي الناتج المحلي، تدخل البنك المركزي بطباعة النقود واستخدامها لتمويل عجز الموازنة بشراء السندات في الأساس حيث تضاعف تمويل البنك المركزي للحكومة أربعة مرات وزادت السيولة المحلية أكثر من 40٪ مقارنة بمطلع 2011، طبقا لأرقام البنك المركزي. ومع ارتفاع السيولة، يصبح المعروض من النقود في ازدياد أسرع من إنتاج السلع والخدمات مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
الثالث: سعر صرف الدولار:
أدى اتساع الفجوة بين الصادر والوارد للاقتصاد من دولار بعد الثورة إلى زيادة الطلب على الدولار وقد استنزف البنك المركزي مليارات الدولارات للدفاع عن الجنيه، لكن لم يكن أمامه مفرا من تخفيض الجنيه، وهو ما انعكس على زيادة أسعار السلع المستوردة، في ظل اعتماد مصر على استيراد الكثير من السلع الأساسية.
ومع خطة الحكومة الهادفة لخفض دعم المواد البترولية تدريجياً على مدار الثلاث سنوات القادمة، فإن الاقتصاد سيشهد موجات تضخم مستقبلية. كما أنه من المتوقع استمرار عجز الموازنة على مستويات مرتفعة لعدة سنوات والحاجة لتمويل الجزء الأكبر منه محليا مما يؤدي إلى توسع البنك المركزي في تمويل عجز الموازنة بطباعة النقود وبالتالي زيادة التضخم. بالإضافة لذلك، قد تأخذ الفجوة بين الصادر والوارد من دولار فترة ليست بالقصيرة للتلاشي حتى تتعافى السياحة وتعود الاستثمارات الأجنبية بمعدلات مرتفعة مما يعني استمرار الضغط على سعر صرف الجنيه.
ولعل هذه الأسباب هي ما تجعل توقعات المنتجين المستقبلية للتضخم مرتفعة وتدفعهم لرفع أسعارهم قدر الاستطاعة. لكن قدرة المنتجين على رفع أسعارهم لا توازيها قدرة المستهلكين على امتصاص ارتفاع الأسعار، خاصة محدودي الدخل والذي يشكل التضخم إفقار مباشر لقوتهم الشرائية الهزيلة. قد يتحدث البعض عن خروج الفقراء في "ثورة جياع" ضجراً من سوء الأحوال وقد يشكك البعض في واقعية ذلك لكن مما لا شك فيه أن استمرار ارتفاع الأسعار يؤدي إلى عدم استقرار سياسي واجتماعي يصعب التكهن بنتائجه.
ومع قدرة البنك المركزي المحدودة على السيطرة على التضخم الناتج عن ارتفاع أسعار الطاقة وسعر صرف الدولار، حيث أنها ارتفاعات في سعر المنتجات المعروضة وليس مستوى الطلب، وكذلك اضطرار البنك المركزي لتمويل عجز الموازنة بطباعة النقود لعدة سنوات، فعلى الحكومة العمل باستماتة على جذب المساعدات والقروض الخارجية وهو ما سينعكس سريعاً على ثبات سعر صرف الدولار وتمويل جزء أكبر من العجز خارجياً وبالتالي خفض توقعات التضخم المستقبلية لتتأثر في الأساس برفع الدعم اللازم لخفض عجز الموازنة.
الخلاصة أن التضخم شديد الخطورة لما له من آثار اقتصادية واجتماعية عديدة. لكن رفع أسعار الطاقة وتفاقم عجز الموازنة وارتفاع الدولار قد أنتجوا موجة تضخم ملحوظة، بينما البنك المركزي في موقف لا يحسد عليه لقدرته المحدودة على السيطرة على التضخم الناتج عن رفع أسعار الطاقة وارتفاع الدولار. ولذلك من الضروري أن تسعى الحكومة سريعا على استعادة المساعدات والقروض الخارجية بكل السبل لرفع الضغط عن الجنيه وخفض الاقتراض المحلي والحد من طباعة النقود لكبح جماح التضخم وتجنب ما لا يحمد عقباه من آثار اجتماعية وسياسية نتيجة ضجر الناس من ارتفاع الأسعار.