رأي حول التخطيط وقضية البيانات والمعلومات في مصر

نشر
8 دقائق قراءة
تقرير محمد محمود الإمام
منظر عام لنهر النيل في وسط القاهرة ويظهر فندق نوفوتيل في الخلفيةCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم محمد محمود الإمام، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

تحدثنا في المقال السابق عن الظروف التي انطلقت فيها عملية التخطيط القومي في ستينات القرن الماضي. وبما أن التخطيط يعني اتخاذ مجموعة من القرارات المتعددة الجوانب والمترابطة معا في آن واحد، فإنه يتطلب إعداد مجموعة كبيرة من البيانات والمعلومات عن الماضي والحاضر، واستخدام أساليب علمية متناهية الدقة لبناء إطار متسق عن فترات مستقبلية، ورسم مسار لحركته عبر الزمن وصولا إلى تصوير متكامل للمجتمع في التاريخ المحدد للأجل الذي تغطيه الخطة. وبينما يعتبر كل مركز من مراكز اتخاذ القرار على مختلف المستويات أن الأمور المحيطة بالموضوع الذي يعنيه من قبيل المعطيات ويحاول أن يبني قراره وفقا للهدف الذي ينشده، فإن التخطيط على المستوى القومي لا يستقيم إلا إذا تعامل مع معطيات كل من القرارات الجزئية كمتغيرات تتجاوب معها قرارات المراكز المعنية بتلك المعطيات.

ولتوضيح ذلك نتأمل ما تقوم عليه نظرية السوق التي تفترض أن الطلب على سلعة بعينها يتوقف على الدخل الكلي الذي ينفق منه المستهلكون، ويتحدد وفقا له السعر الذي يساوي العرض والطلب. ولا تأخذ هذه العلاقة في الاعتبار أن الدخل الكلي يتوقف على دخول المساهمين في إنتاجها، وقد يؤدي توازن عرضها وطلبها إلى اختلاف الدخل عما افترضه منتجوها، فتتولى السوق تصحيح قرارات المنتجين والمستهلكين إلى أن تستقر أوضاعها، وهو ما يتجاهل أن هذه التغيرات تؤثر على أسواق سلع أخرى، فتتوالى التغيرات وردود الفعل، وخلال ذلك قد يضطر منتجون إلى الاستغناء عن بعض العمال، أو يطلبون المزيد فلا يجدون. وكأن توازن أسواق السلع يتم على حساب اختلال سوق العمل ومعدل الأجر. ويدعي أنصار حرية السوق أنها تحقق كفاءة في استخدام الموارد. وعجبا لكفاءة تعامل الإنسان كسلعة، ولا تعني بتزويد المتعطلين بدخل ينفقونه للبقاء على قيد الحياة.

***

ومن هنا تأتي أهمية توفير الأدوات العلمية للتنسيق المسبق لكافة الأسواق معا عن طريق تخطيط شامل يتم على المستوى المركزي. يذكر في هذا الصدد أن الدول التي طبقت الاشتراكية وفق الإسلوب الماركسي اللينيني أطلق عليها أنها دول ذات اقتصاد مخطط مركزيا. ووجه المغالطة في هذه التسمية أن تلك الدول كانت تدار مركزيا بخطط سنوية تنسقها فيما بينها لضمان تأمين احتياجاتها من الواردات وما يلزم لها من أسواق لما يوجه للتصدير، بينما تعتمد على خطط طويلة الأجل لأغراض التنمية. أما في الدول النامية كمصر، فإن على تخطيط التنمية أن يعطي توجيهات لمختلف الوحدات والمؤسسات بموجب قاعدة "مركزية التخطيط ولامركزية التنفيذ"، فالمخطط المركزي لا يدير مركزيا. ويقترح البعض أن يكون التخطيط تأشيريا، بمعنى أن يوفر قاعدة بيانات مستقبلية يسترشد بها أرباب الأعمال لتحقيق أكبر قدر من التوافق فيما بينها، وتوفير متطلبات تحقيق الغايات الكلية للمجتمع. إلا أنه حتى لو فضلت الدول نظام حرية السوق، فإنه يجب إعطاء توجيهات لمؤسسات الدولة تصوغ بموجبها التشريعات والسياسات وتتخذ الإجراءات التي تدفع القرارات الفردية نحو تحقيق الغايات التي يتبناها المجتمع على المستوى القومي.

***

وكانت مصر من أوائل الدول التي شهدت اهتماما بعمليات التعداد والإحصاء منذ أواخر القرن التاسع عشر، ثم تعددت فيها الإحصاءات التي تهم دولة مركزية، والتي تعني المنشغلين بالأنشطة الزراعية وبخاصة القطن. وأنشئت مصلحة الإحصاء والتعداد. وبعد انتهاء صندوق الدين تزايد الاهتمام بالإحصاءات المتعلقة بالسياسات المالية والضريبية، وبإعداد ونشر أرقام قياسية لأسعار الجملة والتجزئة. وساهم البنك الأهلي في إعداد إحصاءات عن الأمور النقدية ومكونات ميزان المدفوعات. وساهم بعض الدارسين في إعداد تقديرات للدخل القومي بأساليب مختلفة ولسنوات متفرقة، اقتضت مني جهدا لاستخلاص تقديرات لسنوات متوالية للاعتماد عليها في تقدير العوامل المحددة لتطور الاقتصاد الوطني.

لكن المشكلة التي أقلقت المعنيين كانت تضارب تقديرات الجهات المختلفة في نواحٍ عديدة، ومنها الإحصاءات الزراعية التي تباينت بين مصلحة الإحصاء ووزارة الزراعة. ويذكر أن العرف جرى على التمييز بين تقديرات المساحات المزروعة، أي التي تزرع ولو لفترة من السنة وقدرت بحوالي 6 مليون فدان، والمساحة الحقلية التي يتكرر فيها حساب الفدان إذا زرع بأكثر من محصول في أجزاء من السنة ووصلت حوالي 11 مليون فدان. ولكنني في دراسة أجريتها عن تطور الحاصلات الحقلية على مدى 40 سنة (14-1954) اعتمدت مصطلح فدان/سنة (مشابه لمصطلح رجل/ساعة في قياس العمل)، مما أدى إلى استنتاجات تخالف ما كان متداولا حول تقدم السياسة الزراعية. والأهم من ذلك أنه عند إجراء قياس لفاعلية عناصر الإنتاج خلال تلك الفترة الطويلة تبين أن أكثر العناصر فاعلية كان هو عنصر العمل، وأن التقديرات التي تأخذ بها أجهزة التخطيط للأجر كانت تتفق مع ما تقضي به النظرية. وهدم هذا أقوالا شائعة بأن العمل الزراعي يعاني من بطالة لفترات من السنة واعتباره نوعا من "البطالة المقنعة"، مما يعني أن أجره الاقتصادي يجب أن يقارب الصفر، الأمر الذي أعطى للإقطاع حقا في التهام غالبية الدخل الزراعي، واعتبار ما يناله الفلاح صدقة توفر له حد الكفاف. غير أن المشكلة الأكبر التي صادفتها عندما حاولت في الفترة 57-1960 إعداد نماذج تخطيطية تربط بين مختلف جوانب الاقتصاد (وهي المهمة التي انتدبت لها في لجنة التخطيط إضافة لعملي بالتدريس الجامعي) هي وجود اختلال في البيانات أفضى إلى نتائج غير مقبولة علميا فكان لابد من مراجعتها.

وأدى الاهتمام بالتصنيع إلى إجراء إحصاء صناعي في 1954 ساهم في التعرف على واقع التشابك الإنتاجي ومهد لتطويره فيما بعد. ولكي يمكن تقدير التطور في الاستهلاك العائلي أُجريت دراسة بالعينة على ميزانية الأسرة، أمكن فيما بعد استخلاص تقديرات منها للتغيرات في الطلب على السلع والخدمات المختلفة بما يتمشى مع نمو الدخل والتغير في توزيعه. غير أن أهم المعلومات التي كانت تتطلبها عملية التنمية كانت تلك المتعلقة بالتفاصيل الفنية للمشروعات التي يجرى إنشاؤها سواء لأغراض مجلس الإنتاج أو لبرنامج السنوات الخمس للتصنيع أو للخطة الخمسية ذاتها. وقد خصصت نسبة مئوية من ميزانية المجلس لأغراض البحوث غطت عددا كبيرا من القطاعات وأعدت مشروعا لكهربة القطر المصري على مدى عشرين عاما. بالمثل كلف عزيز صدقي عددا من الخبراء بإجراء دراسات عديدة تم الاختيار منها لمشروعات السنوات الخمس، كما لعبت هيئة التصنيع دورا هاما في دفع عجلة التصنيع. وفي 1957 ألحقت مصلحة الإحصاء والتعداد بوزير الدولة للتخطيط وأنشئت اللجنة المركزية للإحصاء كهيئة فنية تابعة للجنة التخطيط القومي. وعقب إنشاء مكاتب لتخطيط في الوزارات في أوائل 1959 شكلت 7 لجان رئيسية تفرع عنها 54 لجنة فرعية لدراسة تطور فروع النشاط الاقتصادي والاتجاهات التي يمكن تبنيها في الخطة، فاكتمل بذلك إشراك أهل الخبرة (وليس أهل الثقة كما يتجنى البعض) في إعداد الأسس المتينة لإعداد أول خطة قومية في تاريخ القطر المصري على أسس علمية

نشر
محتوى إعلاني