رأي.. أي دور اقتصادي للدولة في مصر بالمرحلة المقبلة؟

نشر
7 دقائق قراءة
تقرير عمرو عادلي
صورة لمحطة القطار في مدينة اسوان بجنوب مصرCredit: AHMED EL-MOGHRABI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

عانى الاقتصاد المصري من تباطؤ شديد يقترب من الركود منذ ثورة يناير ٢٠١١ تمثل في انخفاض معدلات النمو وتراجع الاستثمار المحلي والأجنبي على حد سواء، وارتفاع غير مسبوق في معدلات البطالة. وسار هذا جنبا إلى جنب مع تفاقم أزمة مالية الدولة واقتراب العجز من ١٤٪ من الناتج مع تضخم الدين العام بشقيه الخارجي والداخلي وتضاؤل احتياطيات النقد الأجنبي لولا تدفقات رأسمالية سخية ومستمرة من بلدان الخليج.

ومع ظهور بوادر للاستقرار السياسي والأمني في الشهور الماضية ثار تساؤل حول أي دور يمكن أن تلعبه الدولة في الاقتصاد، فذهب اتجاه في دوائر الحكومة وبعض الاقتصاديين إلى ضرورة تصدي الدولة لدور مباشر في ضخ الاستثمارات من خلال مشروعات كبيرة ترفع معدلات النمو والتشغيل وتبدأ في تحريك عجلة الاقتصاد خاصة وأن الاستثمار الخاص محليا كان أو أجنبيا لا يزال غير متيقن من استقرار الأوضاع السياسية والأمنية، ولديه تخوفات ـ في الأغلب مبررة ـ من معاودة ضخ الأموال للاستثمار أو للتوسع، ومن هنا كان منطق إطلاق حزم تحفيزية في عهد حكومة الببلاوي.

 ومن هنا كذلك كان دور القوات المسلحة المتعاظم في تنفيذ مشروعات بنية أساسية بتمويل محلي أو خليجي، فيما ذهب رأي فريق آخر في الاتجاه المعاكس برفض اضطلاع الدولة بدور مباشر في الاستثمار على أساس أن موازنة الدولة لا تسمح في ظل العجز الضخم، وعلى أساس أن دور الدولة المتزايد لن يؤدي إلا إلى استبعاد القطاع الخاص ونزع الحافز لديه على الاستثمار لانطواء دور الدولة الاقتصادي على منافسة غير عادلة مع القطاع الخاص، ويرى هذا الفريق أن الأولوية هي تهيئة المناخ التشريعي والسياسي والأمني الملائم لاستعادة الاستثمار الخاص في شقيه الخارجي والمحلي، ويرى أن هذا هو الطريق للتعافي.

***

والحق فإن دور الدولة في الاقتصاد المصري سؤال يستوجب الإجابة لا فيما يخص الخطط قصيرة الأمد المتعلقة بالتعافي الاقتصادي فحسب بل بنموذج التنمية ككل على المدى البعيد، وخاصة فيما يتعلق بشق الاستثمار. فلمن ينظر إلى النموذج الاقتصادي المصري في العقدين الماضيين يتبين له أن معدلات الاستثمار الكلية (مقاسة بإجمالي التكوين الرأسمالي كنسبة من الناتج المحلي) تميزت بالتواضع الشديد، فقد كان متوسط النسبة في مصر بين ١٩٨٩ و٢٠١٢ هو ١٩.١٦٪ فحسب من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بـ٤١.٧٤٪ للصين و٣١.٢١٪ لفيتنام و٢٩.٨٩٪ للهند و٢٨.٧٢٪ لتايلاند و٢٦.٥٨٪ لإندونيسيا في ذات الفترة طبقا لبيانات البنك الدولي.

 وجدير بالإشارة أن نصيب الفرد من الناتج المحلي في كل من الصين والهند وفيتنام أقل من نظيره المصري ورغم هذا فمعدلات الاستثمار أكثر ارتفاعا، وطبقا لتقدير الاقتصادي جلبير أشقر صاحب كتاب "الشعب يريد" فإن تواضع معدلات الاستثمار في العقود الماضية في مصر والعالم العربي عامة كانت سببا رئيسيا وراء انخفاض معدلات النمو ومستويات المعيشة وعدم القدرة على توليد فرص عمل، ومن ثم معدلات البطالة التي هي من الأكثر ارتفاعا على مستوى العالم.

ومن ضمن ما هو ملاحظ بالنسبة لنمو معدلات الاستثمار الكلية في مصر في العقدين الماضيين أن نصيب الدولة في الاستثمار (مقاسا بإجمالي التكوين الرأسمالي كنسبة من الناتج) قد انخفض بشكل تدريجي نتيجة للأزمة المالية من ناحية، ونتيجة لمشروطية المؤسسات المالية العالمية من ناحية أخرى، ولكن هذا الانخفاض في الاستثمار العام لم يعوض من قبل القطاع الخاص، والذي ظل لأسباب عدة غير قادر على رفع نصيبه في الاستثمار، وكانت النتيجة انخفاض الاستثمار الكلي بكل عواقبه التنموية.

***

ليس الغرض من المقال إلقاء اللوم على القطاع الخاص لعدم قدرته على تعويض انسحاب الدولة من الاستثمار، إذ أن هناك عوامل عديدة قد حالت دون ذلك على رأسها تحول الدولة ذاتها إلى أكبر مقترض من قطاع البنوك لتمويل العجز في الموازنة، والذي رفع من تكلفة الائتمان على القطاع الخاص، ومن ثم من تكلفة الاستثمار، كما أن انخفاض معدلات الادخار في مصر عامل آخر يخرج بالكامل عن قرارات القطاع الخاص في الاستثمار من عدمه، ولكن تظل الحقيقة الماثلة في النهاية أن انسحاب الدولة لم يتم تعويضه، ومن ثم الحديث اليوم عن زيادة نصيب الدولة من الاستثمار لا يمكن أن يحمل مخاطر مزاحمة القطاع الخاص خاصة إذا تركز دور الدولة في قطاعات كالبنية الأساسية والتنمية الإنسانية من تعليم وتدريب مهني ورعاية صحية، وكلها أوجه استثمار مرتفعة العائد الاقتصادي والاجتماعي لا يقبل القطاع الخاص عادة عليها.

 إذن هناك مساحة للتوفيق بين القطاعين من ناحية، ورفع معدلات الاستثمار من ناحية أخرى.

ومن المثير للانتباه أن نصيب الدولة في بلدان كالصين وفيتنام والهند وإندونيسيا، وكلها نماذج اقتصادية صاعدة، مرتفع رغم أن هذه الاقتصادات قد شهدت تحريرا اقتصاديا كبيرا في العقود الماضية، وشهدت نموا واسعا للقطاع الخاص وجذبا للاستثمارات الأجنبية، وهو ما يؤكد أن هناك مساحة للتوفيق بل إن جزءا رئيسيا من قصة التنمية والنمو في هذه الاقتصادات قد ارتهن باضطلاع الدولة بدور مباشر في الاستثمار.

 ويعيدنا هذا إلى المعضلة التي تواجه الدولة في مصر، وهو هيكل الانفاق العام، والذي تتجاوز فيه المصروفات الجارية على بنود كالأجور والدعم وخدمة الدين ٨٠٪ من الإجمالي، ما لا يترك أي مجال للتوسع في الانفاق الاستثماري، ويضاف إلى هذا اختلال جانب الإيرادات مع تضاؤل نصيب الدولة من الضرائب كنسبة من الناتج المحلي، فما لم يتم إعادة هيكلة مالية الدولة فمن الصعب الحديث عن إعادة هيكلة للنموذج الاقتصادي ككل. ولكن لا تكون إعادة الهيكلة بغرض تخفيض دور الدولة في الاقتصاد بل من أجل تحويل الانفاق من جانب المصروفات الجارية التي لا عائد لها إلى الانفاق الاستثماري

نشر
محتوى إعلاني