العور يكتب لـCNN عن توازن الحرية والمسؤولية بالاقتصاد في الشريعة الإسلامية: الحوكمة بين الحاجة والتشريع
لقد رفعت العولمة الاقتصادية وما رافقها من فتح الحدود أمام الشركات والمؤسسات القادمة من منابع فكرية متباينة ورؤى وأهداف اقتصادية مختلفة، من حدة التنافس فيما بينها من ناحية، ومن تنويع أدوات التنافس من ناحية ثانية.
والحقيقة أن التنافس بين بنى اقتصادية متباينة المعرفة ومتباينة الأداء، رفع من وتيرة تسارع الأحداث وتطورها على الساحة الاقتصادية العالمية، مما جعل من ضبط أدوات التنافس وتخليصها من السلبيات التي قد تحرفها عن مسارها في تحقيق الهدف الأسمى من الاقتصاد، إحدى أكثر المهمات الحاحاً لدى المختصين في انتاج الأدوات المعرفية للأعمال والمتابعين لمسيرة التطور الاقتصادي.
ومع أن الحوكمة بما تعنيه من إشراف الهيئات التشريعية والإدارية الرسمية في ضبط الأداء الاقتصادي للشركات العاملة في القطاعين العام والخاص، وتعزيز المكاشفة والشفافية والإفصاح عن مجمل نشاطاتها أمام هذه الهيئات، تعود الى حقبة ما قبل العولمة إلا انها باتت اليوم ضرورةً ملحةً وشرطاً أساسياً من شروط تطور المنظومة الاقتصادية بشكل يضمن بالمقابل تحقيق عوائد مستدامة تصب في خدمة مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
لذا من الطبيعي أن يكون للاقتصاد الإسلامي رؤية جديدة عن علاقة الهيئات الرقابية بالمؤسسة الاقتصادية. ولم تأت هذه الرؤية من باب الرغبة في التمايز فقط، بل جاء من جوهر الشريعة الإسلامية التي تقر بالتوازن الطبيعي ما بين الحريات والمسؤوليات في العمل والقرار والملكية للثروات ورأس المال.
إن جوهر رؤية الاقتصاد الإسلامي للحوكمة مبني على شقين. الشق الأول: أن مسؤولية المشرعين في رعاية مسيرة التنمية الاقتصادية والحفاظ على التزامها بالأهداف السامية للاقتصاد في تحقيق الرفاه والسعادة للجميع، من خلال التصدي للمشكلات الأساسية في الاقتصاد المعاصر والرقابة على كافة الأنشطة الاقتصادية، هي واجب وتكليف شرعي، ولا يجوز الإخلال به أو الاستقالة منه لأي سبب كان.
والشق الثاني: أن الحق للأفراد والشركات والمؤسسات بممارسة حريتهم في التملك والتقرير بشؤونهم الخاصة على مبدأ الحرية المسؤولة، هو واجب وتكليف شرعي أيضاً، بمعنى أنهم مطالبون شرعاً بالعمل والإبداع وإثراء مجتمعاتهم بوسائل العيش الكريم، وأنهم مسؤولون أمام الهيئات الرقابية للدولة عن هذه المهام وعن كيفية أدائها ومدى التزامهم بالطرق والآليات التي تحفظ للمجتمع ليس حقوقه المادية فقط، بل وقيمه الروحية أيضاً. وهذه هي الحوكمة بمعناها الأعمق وفي بعدها الإسلامي التاريخي.
إن الاقتصاد بوصفه منظومة متعددة المركبات، هو في الحقيقة تعبير عن مشاركة شرائح واسعة من الناس يختلف دورهم وتختلف مكانتهم في هذه المنظومة، وبالتالي تختلف قدراتهم على تقرير مصيرهم. ولا غرابة إذا قلنا إن الكثير من الظلم قد يلحق بالطرف الأضعف في هذه المنظومة مثل المساهمين في البنوك والمؤسسات المالية أو الموظفين والعاملين وحتى المستهلكين للسلع والخدمات.
كما أن النشاط الاقتصادي لا يتم في فراغ، ونتائجه ليست محدودة في ذات المؤسسة أو الشركة التي تمثله، بل ينعكس مجمل هذا النشاط إما سلباً أو ايجاباً على واقع الدولة والمجتمع كونه المنتج للبنى التحتية الأخرى مثل الصحة والتعليم والترفيه والسلع والخدمات، بشكل يمس جوهر مصالح الناس ويقرر شكل ومستقبل عيشهم.
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن الاقتصاد الإسلامي قد استمد قيمه المعرفية في صياغة علومه الخاصة، من قراءة التجربة الاقتصادية التقليدية من وجهة نظر فقهية تسترشد بالقيم والتعاليم الدينية التي تقر بوجوب بناء علاقات اقتصادية واجتماعية يسودها التلاحم والتراحم وكفالة القوي للضعيف واحترام الحقوق والواجبات من ناحية، ومن أن المسؤولية الخاصة هي جزء من المسؤولية العامة ولا يجوز الفصل بينهما تحت أي ظرف، فبناء المجتمعات من وجهة نظر الاقتصاد الإسلامي هي نتاج المشاركة بالمجهود وبالمنفعة أيضاً من خلال آليات تضمن تحقيق هذا الهدف.
من هنا نرى أن الحوكمة هي حاجة للشركات والمؤسسات قبل أن تكون حاجة اجتماعية عامة، بها تتعزز الشفافية والوضوح في النشاط الاقتصادي، وتستطيع الشركات والمؤسسات التخلص من شوائبها الإدارية والسلوكية التي علقت بها أثناء الانهماك في أداء العمل، وبها نستطيع ضمان أن التنافس بين الشركات هو تنافس مبني على معايير الجودة والتميز في الإدارة وبناء السياسات. والحوكمة محطة موسمية للنقد والمراجعة واستنباط اتجاهات التغيير والتطوير ومحاربة الروتين والمراوحة. وبها أيضاً نستطيع تعزيز الثقة بين الجمهور والمؤسسة الاقتصادية، وترميم هذه العلاقة التبادلية الضرورية التي تشوهت بفعل بعض اخفاقات الاقتصاد العالمي هنا وهناك.
نستنتج مما سبق أن الحوكمة ليست مجرد خيار بل ضرورة أفرزتها التجربة الغنية لمسيرة العمل الاقتصادي وفرضت نفسها بنفسها على واقع كان بأمس الحاجة اليها، وأعادت الأمور الى نصابها في تحقيق التناغم بين الحريات والمساءلة، فهي من ناحية تحرر الطاقات وتحفز الإبداع وتنشط العمل، ومن ناحية أخرى تضمن أن هذه الطاقات والإبداعات تسير نحو هدفها الصحيح والنهائي للنشاط الاقتصادي بتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة، تشكل رافعة للنهضة والحداثة ومظلة لحماية القيم والمبادئ السامية في العمل.