كيف يمكن أن يؤثر تصويت اليونانيين بـ "لا" على مصر؟
هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
صوتت غالبية اليونانيين بالرفض على حزمة التقشف الأوروبية التي عرضتها الحكومة للاستفتاء، ودعت الناخبين إلى رفضها لتحسين موقف اليونان التفاوضي مع المجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي حول شروط الخروج من أزمة الديون السيادية التي تخنق الاقتصاد اليوناني منذ ٢٠٠٩ في أعقاب الأزمة المالية العالمية في ديسمبر ٢٠٠٨.
ولا شك فإن التغيرات التي شهدتها اليونان في الشهور القليلة القادمة تعد منعطفا تاريخيا شديد الخطورة في تاريخ ومستقبل منطقة اليورو، وبالتالي الاتحاد الأوروبي، إذ أن صعود حكومة أقصى اليسار إلى سدة الحكم قبل خمسة شهور على أساس برنامج يقوم على رفض المزيد من إجراءات التقشف، ثم إفلاح الحكومة في إقناع الغالبية من الناخبين (نحو الثلثين) للتصويت بلا يفجر العديد من الأسئلة حول قدرة منطقة اليورو على إدارة التناقضات الداخلية بين أعضائها، المتفاوتين في قدراتهم الاقتصادية، وخاصة التناقض الأبرز بين دول جنوب القارة: اليونان والبرتغال وإسبانيا، والقوى الأكبر في منطقة اليورو: ألمانيا وفرنسا، وهو صراع ذو أبعاد خطيرة على الاقتصاد العالمي، وعلى مستقبل اليسار في العالم وخاصة في شمال إفريقيا، والتي تشترك مع اليونان في كونها اقتصادات تابعة للمركز الأوروبي وواقعة على أطرافه بالمعنيين الاقتصادي والجغرافي.
***
عانت اليونان من تضخم في ديونها الحكومية الخارجية منذ الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨، والتي أدت إلى رفع تكلفة الائتمان مصحوبة باضطراب اقتصادي وتباطؤ في القارة الأوروبية ما جعله من المتعذر عن اليونان ـ وعدد آخر من الدول الأوروبية كأيرلندا وإسبانيا والبرتغال ورومانيا والمجر ـ الوفاء بالتزاماتها الخارجية، وإن كانت الحال في اليونان هي الأسوأ كون البلاد على شفير الإفلاس بالمعنى الحرفي ـ أي عدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها في مواعيدها المقررة، وأسفر هذا عن خوض الحكومات اليونانية المتعاقبة منذ ٢٠٠٩ لمفاوضات مع المجموعة الأوروبية ـ وخاصة ألمانيا أكبر اقتصاد في أوروبا والثالث عالميا وأكبر دائن لليونان ـ ومع صندوق النقد الدولي كونه الجهة الدولية المسئولة عن الوضع المالي والنقدي للدول الأعضاء.
وقد كان المخرج وقتها واضحا ومألوفا وهو تطبيق إجراءات تقشف تقوم على تخفيض الإنفاق العام ـ من خلال خصم أجور العاملين في الدولة وتخفيض المعاشات ـ بما يسمح بتخفيض العجز الحكومي، وتخصيص المزيد من الموارد لسداد الدين الخارجي ومنع توسعه، وقد كان من المخطط أن يؤدي التقشف إلى تحسين وضع الحكومة اليونانية المالي، ويضع الاقتصاد على مسار استعادة النمو بعد فترة من الانكماش الناتج عن التقشف، بيد أن ما وقع فعليا هو أن التقشف قد فاقم من الركود الاقتصادي، ما رفع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة ـ بلغت نحو ٤٠٪ في فئة الشباب ـ مع تخفيضات متوالية في الدخول الحقيقية للعاملين في الدولة ولأصحاب الأجور الثابتة من المتقاعدين، وسرعان ما دخلت اليونان في دائرة مفرغة حيث يؤدي التقشف إلى تعميق الركود ما يؤدي إلى المزيد من الضعف في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية ما يقتضي المزيد من التقشف.
وأمام استمرار هذا الوضع لسنوات أطاح الناخبون اليونانيون بالنخبة السياسية التقليدية مطلع هذا العام وأتوا بحزب سيريزا ـ المحسوب على أقصى اليسار ـ في مقعد الحكم، ودخلت الحكومة الجديدة في مفاوضات مطولة مع المجموعة الأوروبية وصندوق النقد أفضت إلى حزمة تقشف، تتناقض والبرنامج الرئيسي الذي دخل بناء عليه الحزب الحاكم الانتخابات، والتمس رئيس الوزراء اليوناني المخرج في طرح الحزمة للاستفتاء الشعبي مع حث اليونانيين على التصويت بلا، وهو ما نجح في فعله.
***
ماذا يعني التصويت بلا؟ لا تعني نتيجة التصويت بشكل مباشر التأثير على مستقبل اليونان كجزء من منطقة اليورو أو من الاتحاد الأوروبي، بل إن حكومة تسيبراس تدرك جيدا أن تكاليف الخروج من منطقة اليورو والعودة للتعامل بالعملة الوطنية ـ الدراخمة ـ هو أمر وخيم العاقبة على بلد صغير واقتصاد هامشي كاليونان، ولكنها تدرك في الوقت ذاته أن التصويت بلا يضع الديمقراطية كتعبير عن إرادة الشعب في مواجهة مباشرة مع التقشف كبرنامج مشروطية مفروض من الدائنين، وتدرك جيدا أن خروج اليونان من منطقة اليورو ليس أمرا هينا لمستقبل أوروبا الاقتصادي خاصة وأن أوضاع بلدان كإسبانيا والبرتغال وهما عضوان في منطقة اليورو لا تختلف جوهريا عن اليونان، كما أن خروج اليونان من منطقة اليورو يهدد مستقبل منطقة اليورو ـ ثاني أكبر الكيانات الاقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة.
وهو ما يجعل للحكومة اليونانية اليوم أملا في استخدام نتائج التصويت والتأييد الشعبي الكبير لإعادة التفاوض حول مستقبل اليونان داخل أوروبا لا خارجها، ولكن ليس بشروط الدائنين وإنما بشروط اليونان على نحو قد يحقق ولو بشكل جزئي مطالب شباب اليونايين في تخفيض البطالة واستعادة النمو الاقتصادي مع تحسين وضع البلاد المالي بدلا من تبني إجراءات تقشفية واحدة تلو الأخرى بلا أفق سوى تعميق الركود والمزيد من إحراج الوضع المالي.
إن ما يجري في جنوب أوروبا شديد الأهمية بالنسبة لدول شمال إفريقيا خاصة مصر وتونس والمغرب، والتي ترتبط بالاتحاد الأوروبي ارتباطا وثيقا كونه أكبر شريك تجاري لها، وكونه أحد أكبر مصادر تدفق حركة السياحة والاستثمارات الأجنبية، وخاصة وأن بلدان شمال إفريقيا التي ترتبط بالاتحاد الأوروبي باتفاقات شراكة لا تختلف كثيرا فيما تنتجه عن بلدان جنوب أوروبا، ويضاف إلى هذا أن مستقبل اليسار في شمال إفريقيا ـ خاصة في بلد مثل تونس ـ سيكون مرهونا ارتهانا مباشرا وغير مباشر باليسار الجديد في جنوب أوروبا وقدرته على تغيير شروط دمج تلك الاقتصادات في المركز الأوروبي في بلدان كاليونان والبرتغال.