عبدالله العور يكتب لـCNN: نحو استنهاض الأوقاف الإسلامية وملياراتها المجمدة.. من يوقظ المارد النائم؟
مقال لعبدالله محمد العور، المدير التنفيذي لمركز دبي لتطوير الاقتصاد الإسلامي، كتبه خصيصا لـCNN. المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- حتى اليوم، ما من معلومات دقيقة حول قيمة الأصول العائدة للأوقاف حول العالم، لكن التقديرات تشير الى عشرات مليارات الدولارات المتوفرة على شكل أموال نقدية أو أصول عقارية ويتم التبرع بها لأعمال خيرية.
اتسم الوقف تاريخياً بغياب الإدارة المحترفة لأصوله، فالأموال الوقفية كانت إما مقيّدة في أصول ثابتة مثل العقارات وبالتالي لا تحقق عائدات تُذكر، وإما كانت مهملة في حسابات مصرفية بحيث انخفضت قيمتها تدريجياً بفعل التضخم. ولكن، بعدما عانى العالم ولا يزال من تداعيات الأزمة المالية، أصبح من الضروري أن نتساءل لماذا لا يتم تفعيل دور الوقف وإدارة أصوله لأهداف تنموية اجتماعية بعيدة المدى بدل بقائها رهينة الأسلوب التقليدي في توظيفها لبناء المساجد فقط؟
اتخذ الوقف على مستوى العالم شكل المشاع أو الوقف الحكومي. ففي الهند مثلاً هناك 500 ألف وقف مسجل بمساحة إجمالية تصل إلى 600 ألف فدان وبقيمة دفترية توازي 19.3 مليار دولار، وذلك وفقاً لبيانات مجلس الأوقاف المركزي في الهند. أما في بقية أنحاء العالم، فالبنى التحتية للأوقاف متوفرة في كل دولة مسلمة، بما فيها تركيا وإندونيسيا ومصر وباكستان ودول مجلس التعاون الخليجي. وهناك أوقاف صغيرة في دول ذات الأقلية المسلمة مثل جنوب أفريقيا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأميركية.
لطالما قيل عن غياب الإدارة الفعالة للأوقاف، فغالبية أصول الوقف لها طابع ديني روحي ولا يتم توظيفها في استثمارات متوافقة مع أحكام الشريعة الإسلامية. لا شك في أن الأوقاف ساهمت في مساعدة العديد من المجتمعات حول العالم إلا أن غياب الثقافة المالية في إدارة الأوقاف ساهم في تبديد فرص كثيرة لتحقيق عائدات مستدامة.
أولى الأوقاف التي عرفتها البشرية منذ مئات السنين كانت على شكل تعاونية أو صناديق مشتركة تدعم المجتمعات الفقيرة من خلال تشييد المدارس والمستشفيات ومساعدة المعوزين. ومع مرور الزمن، دخل الوقف في الشؤون الإسلامية لينتقل من أهدافه التنموية الاجتماعية الى تطوير المشاريع ذات الطابع الديني كبناء المساجد. لكن هل يمكننا أن نبقي الوضع على حاله بعد كل ما شهده العالم من أزمات على أثر الأزمة المالية؟ ألم تقودنا تلك الأزمة الى السؤال عن مدى استدامة الوقف والى البحث عن وسيلة لتعزيز قيمة وأهداف الأصول الوقفية؟
إذا كنا نقرّ بأهمية الاستدامة المالية بالنسبة للأوقاف، علينا أن نقرّ بأن الركود الذي أعقب الأزمة المالية العالمية، أدى إلى انخفاض في حجم التبرعات مما تسبب بمعاناة شرائح اجتماعية واسعة كانت تعتمد بشكل رئيس على المساعدات والتبرعات الوقفية. وكما هو الحال في كثير من الأحيان، من يعجز عن مساعدة نفسه هو الأكثر تأثراً بشح التمويل. مما يضع مسؤولية خاصة على الأوقاف لضمان حماية أصولها من الرياح التي تعصف بالنظام المالي العالمي.
يُوصف الوقف بالمارد النائم في قطاع التمويل الإسلامي والاقتصاد الإسلامي بشكل عام. فهو يمتلك من الإمكانات ما يجعله من أفضل الأدوات الاستثمارية التي تثري ذاتها لو تم توظيفها وإدارتها بشكل صحيح يغنيها عن الاعتماد المطلق على التبرعات والمساعدات الخارجية. أكثر من ذلك، إن الإدارة السليمة للوقف تمنح المتبرعين ضمانة بأن أموالهم تعود بالمنفعة ليس فقط في المدى القريب بل أيضاً لأجيال كثيرة في المستقبل. ولعل أفضل مثال على ذلك، المبادرة التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي بإنشاء قرية عائلية للأيتام تحت إدارة مؤسسة دبي للأوقاف وشؤون القصّر. مثال آخر على الابتكار في الاستثمار الوقفي يتجلى في مبادرة سلمى التي أطلقها مركز دبي لتطوير الاقتصاد الإسلامي بالتعاون مع مؤسسة دبي للأوقاف وشؤون القصر ونور الوقف، من أجل تأمين الأغذية الحلال للمنكوبين من الكوارث في كل أنحاء العالم.
هذه الأمثلة تشكل مصدر إلهام للحفاظ على استدامة الوقف وإعادة صياغة دوره التاريخي، بحيث يصبح أكثر انغماساً في تمويل مشاريع تنموية اقتصادية متعددة الاختصاصات، وعدم التوقف عند المشاريع الخيرية فقط على أهميتها، لأن وظيفة المال والأصول الوقفية تطورت بتطور العلوم الاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي تطورت الحاجات البشرية الأساسية. بات من غير الممكن تحقيق تنمية شاملة تقضي على مسببات الفقر والبطالة وتفشي الأمراض، إلا من خلال مساهمة الأموال الوقفية في عملية تمويل المشاريع التنموية الشاملة، وهكذا يحافظ الوقف على تنامي مداخيله الخاصة، ويعزز مقدرته على الاستمرار بالصرف على النواحي الخيرية.
وانطلاقاً من قناعتنا بأهمية الوقف في تحقيق التنمية المستدامة، خصصنا في القمة العالمية للاقتصاد الإسلامي التي تعقد بدبي في 5 و6 أكتوبر، حلقة نقاشية حول كيفية استنهاض الأوقاف. فبعد الإعلان عن مبادرة دبي عاصمة الاقتصاد الإسلامي، شكل الوقف أحد المحاور التي ركز عليها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من أجل دفع مسيرة تطوير الاقتصاد الإسلامي.
إن القمة العالمية للاقتصاد الإسلامي ستتيح لكل المهتمين والعاملين في الأوقاف فرصة مثالية لتبادل الأفكار حول أفضل السبل المبتكرة لإدارة الأصول الوقفية بما يحقق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة.
نحن نحتاج اليوم الى تغيير حقيقي في مفهومنا عن دور الوقف، تماماً مثل مفاهيم كثيرة لدينا عن قطاعات ومجالات الاقتصاد الإسلامي. فالهدف الأسمى للوقف هو لخدمة المحرومين والمعوزين في العالم وعلى المسلمين اليوم إدراك عمق وأبعاد واجبهم الاجتماعي تماما كما يدركون واجباتهم الدينية والروحية، بحيث يعملون معاً ويكرسون طاقاتهم لضمان الرفاه والعيش الكريم للآخرين.
لست اقترح هنا الإحجام عن التبرع بالأموال وبناء المساجد لصالح تشييد المدارس ودور الأيتام والمستشفيات، بل أقول بضرورة تحرير الوقف من دوره التقليدي والتاريخي بحيث يصغي أكثر الى متطلبات العصر ويدخل في عملية التنمية المستدامة من خلال استثمارات متوافقة مع احكام الشريعة الإسلامية تأخذ في الاعتبار احتياجات الشعوب وتعمل على تمكنيها بمقومات اقتصادية واجتماعية تحقق من خلال استقرارها وأمنها ومستقبلها لأجيال وسنوات قادمة.