الأمين العام لمؤسسة الأوقاف وشؤون القصر في دبي يكتب لـCNN: أموال الوقف أداة للتنمية الحضارية وليست عودة للتاريخ
هذا المقال بقلم طيب الريس، الأمين العام لمؤسسة الأوقاف وشؤون القصر ، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهة رأي CNN.
إن أهمية الاجتماع الذي عقدته دول مجلس التعاون الخليجي ممثلةً بوزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية مؤخرا في مدينة الرياض، تنبع من الحاجة الماسة على المستوى الإقليمي والعالمي لتوفير وسائل تمويل للتنمية في وقت يواجه الاقتصاد الإقليمي والعالمي تحديات كبيرة على هذا الصعيد، فسبل التمويل التقليدية التي سادت لسنوات وما أفرزته من نتائج، دفعت العالم نحو التفكير بوسائل حديثة لمغادرة تداعيات الأزمات المالية السابقة التي ألقت بظلالها على ساحة الاقتصاد العالمي ركوداً، وتباطؤاً في النمو، ونقصاً في مداخيل الدول وبالتالي تراجع قدرتها في أداء واجبها السيادي في استنهاض الاقتصاد من كبوته.
بالعودة إلى تاريخ الوقف، نستطيع أن نستكشف هذه الأدوات، وأن نلمس دوره الكبير في تحقيق النهضة العلمية والثقافية والاقتصادية وحتى الاجتماعية، فأموال الوقف كما ثقافته شكلت فيما مضى أداة تمويل التنمية الحضارية التي لا زالت آثارها باديةً حتى الآن، وبما أن التجربة التاريخية أثبتت نجاعة الشراكة الاجتماعية في توفير أموال للصرف على مشروعات متعددة الوظائف، فإن العودة إلى هذا الأسلوب يعتبر ارتقاءً ونهضة للأمم وليس عودة للتاريخ كما تصورها بعض الأراء التقليدية.
إن الأوقاف بثقافتها الاجتماعية التعاونية، وبدورها الذي تستمده من إنجازها التاريخي، كفيلة بإحداث تغيير جذري على المنظومة الاقتصادية السائدة. ولكي يتحقق هذا الهدف نحتاج لدمج الأوقاف مع باقي قطاعات الاقتصاد الإسلامي لنخرج بمنظومة متكاملة تشكل بديلاً تنموياً مستداماً ينعم بنتائجه المسلم وغير المسلم. لأن تحقيق التنمية في ساحة اقتصادية بعينها، ستكون مهمةً صعبة إلا إذا كانت هذه التنمية شاملة لكل الساحات، وتشارك في صناعتها جميع الشعوب بدون استثنناء.
إن الوقف هو الداعم الأساسي لمتطلبات التنمية البشرية كمدخل للتنمية الاقتصادية، من خلال الاهتمام بالعلوم والمعارف والمواهب وتحفيز الإبداع والابتكار العلمي، والارتقاء بمستوى المسؤولية الاجتماعية للأفراد والشركات والمؤسسات من كلا القطاعين العام والخاص.
كل هذه مجتمعة هي أدوات التنمية المستدامة التي ينجزها المجتمع ويحميها ويحرص عليها. هذه هي الأدوات ذاتها التي من خلالها ارتقت الأوقاف بواقع الدولة الإسلامية القديمة، وحققت بواسطتها التنمية في مختلف المجالات.
الوقف بالمفهوم الاقتصادي، هو مصادر شرعية للتمويل، وعندما نقول مصادر شرعية فهذا يعني حكماً أن تكون غايات هذا التمويل متوافقة مع الشرع الرباني والطبيعة الإنسانية التي تتمثل في تمويل وتنمية القطاعات التي لها علاقة مباشرة بحياة البشر مثل التعليم والصحة والتمكين بالخبرات والمهارات للكوادر البشرية.
والوقف ببعده الاجتماعي، يعني أن يكون للمجتمع دوراً كبيراً من خلال المساهمات المادية في تمويل تنميته، فالتنمية الاجتماعية ستظل تعاني إشكالات عدة، إلا إذا شاركت المجتمعات ذاتها في تمويلها وصياغة مخططاتها وتحديد أهدافها.
والوقف ببعده الثقافي، تعبير عن التعاون والتلاحم بين كافة عناصر الأمة، من مؤسساتها الرسمية والخاصة إلى الأفراد مهما كانت مكانتهم وأوضاعهم الاجتماعية، لكل منهم دوره في تمويل رقي واقعه وتحسين شروط حياته. ولعل ثقافة الوقف بما تمثله من شراكة بين الجميع في صياغة ملامح واقعهم، ستشكل قاعدة متينة لوعي قادر على تحصين ذاته في مواجهة ثقافة التطرف والكراهية والانعزال.
إن علاقة الوقف بالتنمية تتجاوز في طبيعتها علاقة السبب بالنتيجة، إنها علاقة تضع النتائج المستدامة للنشاط الإنساني في قائمة الأولويات، كما أنها معادلة تتكامل فيها العقيدة بالإنسانية بالعلوم الاجتماعية والاقتصادية، لتساهم في صناعة التنمية الشاملة بالمقاييس الحديثة، هذا الشكل الذي يستند للتاريخ وتراثه وإنجازاته، ويسعى لصناعة مستقبل يعيد الأمة الإسلامية بأبهى صورتها إلى خارطة العالم من جديد.