مدحت نافع يكتب عن مصر التي يرسمونها.. ما قصة تلك الصورة الفوتوغرافية الصادمة؟
هذا المقال بقلم مدحت نافع، خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
كانت تجربة ثورة يناير التى هزّت العالم بعدُ فتيّة، كثير ممن هيأ الله لهم السفر خارج البلاد فى أعقاب تلك الثورة رأوا بأم أعينهم احترام العالم لكل ما هو مصرى، ولمسوا اهتمام الناس بتفاصيل أيام الثورة، كيف عاشها المصريون؟ كيف كسروا بأياديهم المجردة وحناجرهم الحرة قيود أشد أنواع الاستبداد بطشاً؟..هذه الروح كانت حاضرة منذ وصولك مطار البلد الغريب، وأثناء إقامتك، تستطيع أن تميزها إن كنت معتاد السفر وكان القلق يساورك فيما مضى كلما جاء دورك على نافذة مكتب الجوازات لمجرد أنك تحمل جواز سفر مصرىّ مما يضعك عادة فى دائرة الاشتباه.
كنت فى زيارة إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، أحضر برنامجاً مكثفاً أعده صندوق النقد الدولى للاقتصاديين من مختلف البلاد فى مايو 2011 ولمدة شهر. هذه الزيارة أتيح لى خلالها ما لم يتح لى فى زيارات سابقة إلى الولايات المتحدة نظراً لطول الإقامة فى مدينة واحدة، استطعت خلالها أن أعرف كل شئ عن عاصمة أقوى بلد فى العالم، وحرصت على رؤية مصر الثائرة بعيون مختلف الجنسيات التى التقيتها، وسجّلت ملاحظاتى فى هيئة مقالات نشرت حينها ببوابة الوفد.
وإذ وضعت جدولاً لزيارة المتاحف، كان يوم زيارتى إلى المتحف الوطنى للتاريخ الطبيعى مميزاً للغاية، إذ ترك فى نفسى أثراً عميقاً لا أنساه، فقد قرن الأمريكيون فى ذلك المتحف خلاصة تاريخ الحياة على كوكب الأرض بتاريخ نشأة الإنسان وتطوره، ونمو الحضارات وازدهارها على اختلاف العصور. كانت سعادتى غامرة وأنا أتأمل مومياء مصرية محفوظة بشكل ملفت، محاطة بأساور من ذهب وحلى مختلف ألوانها، وليس جديداً إذا أخبرتك مدى الشعور بالزهو والفخار عندما تحلّق العشرات من زوّار المتحف (وأغلبهم من طلبة المدارس) يتدارسون أموراً عن تاريخ تلك المومياء الصامدة، ويستمعون إلى رجل هاو يتحدث باهتمام عن بعض أسرار دفن القدماء المصريين لموتاهم. كنت أتعمد النظر فى عيون هؤلاء الزوّار كى أجمع فى سكون علامات الاستحسان والتقدير لإرث أجدادى، الذين تركوا فى ملامحى أثراً آخر يدل عليهم. هكذا كان لسان حالى يقول للأمريكيين عن أقدم ما جمعوا من آثارهم: أين كان أسلافكم عندما كان صاحب هذه المومياء حياً يعمر الأرض بالتحف والآثار؟
هو التاريخ إذن ينصف المصريين كالعادة أينما ثقفوا، بل إن أمارات هذا التاريخ تجسدت فى تحف معمارية حديثة تحاكى حضارة القدماء المصريين، وأى شاهد على هذا خير من محاكاة المسلة المصرية فى قلب العاصمة الأمريكية ببناء ضخم، لكنه أجوف يخلو من الفن والإبهار.
***
نعود إلى المتحف الكبير الذى هويت منه فجأة من حجرة المومياء المصرية إلى موضع صورة فوتوغرافية صادمة! فما قصة تلك الصورة؟. فى جناح كبير لقارة أفريقيا، أقدم القارات حياة وثراء بالتاريخ الطبيعى، تقدّمت بخطى واثقة لأرى موقعنا العظيم من هذه القارة، فإذا بمصر تتصدر هذا الجناح بصورة فوتوغرافية ضخمة تمنيت لو كانت أصغر لواريتها إذن عن الأنظار! هى صورة للأهرام الثلاثة تحمل عبارة توحى ببدء التاريخ الحضارى، لكنها تحمل أيضاً مشهداً مخزياً يشى بتعمّد ملتقطها أن يبرزه فى صدرها. الأهرام المصرية هى إرثنا الأعظم الذى نباهى به الأمم، وهى لعنتنا أيضاً التى ركنّا إليها متكاسلين لنبقى دهوراً فى ذيل الأمم، لكنها على أية حال مناط الإعتزاز والفخار ورمز لمصر، حتى وإن تعمّد بعض صناع السينما فى هوليود من ذوى الميول الصهوينية أن يصوّروها محاطة بالجمال والخيول، ليقولوا للعالم هكذا يعيش المصريون الآن بدون أية مظاهر للحضارة الحديثة، فأى صورة للأهرام إذن ممكن أن تخزى المصريين؟! هى صورة لعشش عشوائية قبيحة تكاد رائحة العطن تفوح من أطنان القمامة المؤطرة لها، بل يكاد الذباب الذى لم تخطئه عدسة المصوّر الخبيث أن ينتقل بينها! وفى الخلفية من هذا المشهد المقزز تقف الأهرام الشامخة شاهدة من بعيد على هذا القبح. أليس فى محافظة الجيزة بأكملها زاوية للأهرام غير تلك الزاوية التى أراها لأول مرة؟! وما علاقة تلك العشوائيات الحديثة بالسياق التاريخى الذى وضعت فيه تلك الصورة؟ وأى رسالة أرادها المصوّر بتلك اللقطة، خاصة إذا كان التعليق عليها جاء خلواً من أية إشارة إلى مصر الحديثة؟ وهل إذا أرادوا تصوير مصر الحديثة يكون هذا المشهد خير معبّر عنها؟ وهل تخلو الأحياء الفقيرة فى أمريكا من مشاهد قبيحة شكلاً وجوهراً لم يأت هذا المتحف أو أى متحف فى العالم على إبرازها؟..أسئلة استنكارية كثيرة تمنيّت لو وجّهتها لمدير المتحف، ولكن ما صفتى أنا كى أفعل ذلك؟
تساءلت حينها فى مقالى عن الدور السلبى للمستشار الثقافى بالسفارة المصرية التى لا تبعد سوى أميال قليلة عن المتحف، تساءلت عن إمكانية تبرّع مصر بصورة للأهرامات تمثّل عظمة التاريخ المصرى دون أن تكذّب، أليس بمقدور الدبلوماسية المصرية أن تسعى فى إزالة هذه الفضيحة عن جدران متحف من أكبر المتاحف فى الولايات المتحدة الأمريكية؟ هذا المتحف وغيره من أوقاف العالم الإنجليزى "جيمس سميثون" بمثابة معاهد يرتادها الكبار والصغار مجاناً ليتعرّفوا على الناس والحضارات. فى تلك المتاحف يتعلّم الطفل الأمريكى أى الشعوب أولى بالاحترام والوقار، فيها ومن خلال صورها وأفلامها يتعلم رئيس أمريكا المقبل كيف يعامل مختلف الشعوب.
قد يقول قائل: فلنذهب لإزالة العشوائيات أولاً قبل أن نزيل الصورة، ولنبتلع هذه الإهانة صاغرين مادمنا أجرمنا بترك هذا السرطان ينمو فى شرق البلاد وغربها، وأنا لا أختلف مع هذا الرأى فى ضرورة التعامل مع الأصل قبل الصورة، ولكن لعنة العشوائيات قد يتطلب رفعها أعواماً عديدة، وهى لعنة توجد فى كثير من دول العالم دون أن يصنع منها معرضاً فى قلب متحف موضوعه التاريخ!! ولست هنا كمن يقول بإخفاء الحقيقة ودفن الرؤوس فى الرمال، ولم أكن يوماً من أنصار إخفاء الفضائح عن العالم وتفضيل المذلة من الحاكم عن انكشاف السوءات أمام البشرية، لتسويغ بقاء الجائرين فى سدة الحكم، ولكن الصورة التى أتحدث عنها أقحمت فى سياق غير سياقها كما تقدمت الإشارة، ولا أجد سبباً واحداً لوجودها فى هذا المتحف.
***
لا أعرف إن كان أحد قد استمع إلى استغاثتى أم لا؟ لكننى أذكر الموضوع مجدداً آملاً فى تسويق مصر على النحو اللائق بها تاريخاً وأثراً وموقعاً، هذا التسويق الذى يمكنه أن يدر دخلاً سياحياً كبيراً يكفى لخروجنا من أزمتنا الاقتصادية فى بضع سنين، هذا التسويق الخالى من الابتذال والمعارض الوهمية والدعاية الجوفاء التى لا تعكس واقعاً، أذكره فى سياق استشعارى للاستجابة لنداء بح به صوتى مراراً للعهود بإدارة المناطق السياحية الهامة وفى مقدمتها الأهرام لشركات متخصصة. إذا تمكّنت مصر من اجتذاب 30 مليون سائحاً فى العام، بما يتطلبه ذلك من جهوزية المطارات والفنادق واستغلال العقارات المغلقة طوال العام لتؤجر عبر شركات متخصصة للسائحين فتعوّض انخفاض عدد الغرف السياحية، فمن الممكن أن ترتفع إيرادات السياحة إلى أكثر من 25 مليار دولار فى العام، علماً بأن فرنسا قد استقبلت فى عام 2013 وحده ما يقرب من 85 مليون سائحاً، وأن الصين التى نروّج لصداقتنا بها أنفق سائحوها البالغ عددهم 109 مليوناً ما يعادل 229 مليار دولار عام 2015 فقط.