بعد حديث السيسي عن "الفكة".. أحمد عبدربه يكتب: إلى جلادي الشعب
هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي CNN.
يرى البعض أن حملة الانتقادات والسخرية التى طالت مواقع التواصل الاجتماعى وبعض مجالس المصريين بخصوص حديث رئيس الجمهورية عن "الفكة" فى خطابه الأخير هى من قبيل السلبية والانهزامية والرغبة فى "تكسير" المجاديف وعدم الرغبة فى المساندة والمساعدة! تحدث البعض الآخر عن الرئيس الذي يريد انقاذ الدولة والشعب الذى لا يبالى ولا يعمل ولا يجيد سوى الانتقادات! ذكرنا البعض الثالث بدور الصدقات فى عصر الرسول (ص)، بينما تبارت مجموعة أخرى فى اتهام الشعب بالطمع ومخالفة القوانين على هامش غرق سفينة رشيد الذي حصد مئات الأرواح وأنه من استطاع أن يجمع عشرات الآلاف ليسافر على ظهر السفينة الغارقة كان يستطيع أن يستغل هذا المبلغ كرأس مال لمشاريع وطنية فى مصر! وهو ما دفع آخرون للقول أن الحكومة قد يكون لديها سلبيات ولكنها مرشحة للنجاح مع شعب آخر! فيما حاول البعض تلبس المثالية والإيجابية فأخذ الترويج لاقتصاد "فوق السطوح" مؤكدا على مكاسبه المضاعفة الأكيدة.
كان العامل المشترك فى كل هذه التعليقات هو الاتجاه للوم الشعب وتحميله المسؤولية الأكبر عن المآسي، تارة باتهامه بالسلبية أو الانهزامية وتارة باتهامة بالطمع والجشع ومخالفة القوانين، وثالثة بإيهامه ببدائل غير مجدية ولا علمية لأزماته الاقتصادية كمشروع الفكة أو اقتصاد "فوق السطوح"!
***
لست من هواة الشعبوية وأرى بالفعل أن الشعب المصرى - مثلما هو الحال بالنسبة لباقى شعوب العالم- لديه بعض العيوب وقد يكون مسؤولا عن بعض المثالب هنا أو هناك، لكن هذا لا يعنى أن نسكت على عمليات إلباس الحق بالباطل وقلب الآية لتحميل الشعب المسؤولية الرئيسية عن كل ما يحدث! لست في تناطح شخصي مع أحد، فكل شخص في تقديرى حر في خياراته وحر في الخانة التى اختارها لنفسه فى الشأن العام وعليه فقط تحمل النتائج الاجتماعية قبل السياسية لذلك آجلا أو عاجلا.
لكننا هنا نذكر ونرد على الأفكار لا على الأشخاص حتى لا تستمر سرديات وهمية تخلق وعيا شعبيا طيعا ومسالما وغارقا في الشعور بالذنب وعدم الثقة! ماذا تقول تجارب الدول المختلفة وخصوصا الأكثر نجاحا على مؤشرات اقتصادية واجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية؟
تقول التجارب أن هناك أربعة نماذج لعلاقة المجتمع بالدولة (السلطة):
النموذج الأول: هو نموذج الدولة القائد، دولة ليس بها مؤسسات سياسية تعددية أو معارضة، تعتمد على حزب واحد وعلى مجموعة قيادات متماسكة فكريا، تضع خطة لتقدم البلاد بحيث يتحول الأفراد إلى قيم مجردة وأرقام تضرب وتجمع وتطرح بحيث تصب فى مصلحة الدولة كشخصية اعتبارية أسطورية. دولة تنتهك الحقوق والحريات وتقنع الأفراد أن هذا في صالحهم طالما أن الدولة ستتقدم على المؤشرات الاقتصادية وأن دور الفرد هو التضحية حتى بذاته من أجل هذه القيمة العليا.
النموذج الثانى: هو الدولة المنسحبة أو دولة الحد الأدنى، وهى الدولة التى ترى أن دور مؤسساتها هو فى تنظيم ووضع القوانين واللوائح وضبط حدود العلاقة بين كل الفاعلين في الدولة عبر مؤسساتها المنتخبة شعبيا بالإضافة لدورها فى ضبط الأمن الداخلى والخارجى، لكن المحرك الرئيسى لشؤون المجتمع هو رأس المال الحر، السوق غير المكبل، حرية العرض والطلب ليس فقط على السلع والمنتجات ولكن حتى على كل قيمة مادية أو معنوية بما فيها الإنسان نفسه، وهو -عكس النموذج الأول- لا يجب عليه التضحية من أجل الدولة ككيان أسطورى، ولكنه يعمل لنفسه وبنفسه وكلا بحسب قدراته ومهاراته فى إطار من الحرية والتعددية.
النموذج الثالث: هو نموذج الدولة المسؤولة اجتماعيا، دولة ترى أن دورها هو الضبط والتحكم فى إيقاع علاقات المجتمع بالفاعلين السياسيين والاقتصاديين فى إطار من الحرية ولكنه إطار لا يخلو من إقرار الدولة بمسئوليتها ليس فقط فى توفير الأمن ولكن أيضا فى توفير الخدمات التعليمية والصحية بالإضافة لتوفير الضمانات الاقتصادية والاجتماعية للأفراد الذين لا يملكون مهارات تميزهم وتمكنهم من المنافسة، بعكس النموذج الثانى الذى يترك غير المميزين بلا أي رعاية اجتماعية أو صحية تذكر ويتعامل معهم كما لو أنهم قد جاءوا بالخطأ إلى الحياة.
النموذج الرابع والأخير: هو نموذج الدولة القبيلة، دولة "طويلي العمر"، دولة الرئيس الأب، دولة الريع، دولة الثروات الطبيعية التى تستطيع أن توفر الرفاهية لشعوبها ليس باعتبار أن ذلك مسؤولية قانونية أو تاريخية عليها، ولكن باعتبار أن الشعب هو ابنها المسؤول منها، وبالتالى فهو ليس من حقه محاسبتها طالما أنها لا تطالبه بدفع ضرائب وطالما أنها تستقدم له العمالة الأجنبية لتسهر على راحته! هذه دولة الشرعية فيها لا لقانون أو لدستور، ولكنها لمجموعة من القيم التاريخية أو الدينية التى لا تخلو من بعض الأساطير، فضلا عن التربيطات العائلية والقبلية والخارجية التى توفر الاستقرار.
***
نموذج الدولة القائد يسحق الفرد والمجتمع لصالح الكيان الأكبر، الشخصية الأسطورية المسماه بالدولة، بينما نموذج الدولة المنسحبة يسحق الفرد والمجتمع لصالح غيرهم من الأفراد والمجتمعات الأكثر موهبة وتميزا وحظا. الدولة هنا بمثابة أداة لتنقية المجتمعات من الأقل خبرة ومهارة وحظا لصالح الأكثر تميزا رغم توافر الحرية والتعددية بخلاف النموذج الأول. بينما نموذج الدولة القبيلة ينقرض، سواء بسبب التطورات التكنولوجية التى أحدثت ثورات اجتماعية وسياسية قللت من قيمة القبيلة والعائلة الكبيرة فى تراتبية علاقات القوة فى المجتمع، أو بسبب استنزاف الموارد لدرجة نضوبها وانهيار أسعارها؛ فلم تعد قادرة على شراء شرعيتها السياسية برشاوي اقتصادية. وحده نموذج الدولة المسؤولة اجتماعيا التي تقبل بالتعددية السياسية والحريات الفردية هو القادر على تقديم النموذج الأنجح والأكثر تماسكا وتوافقا مع المعايير المجردة للعدل والحرية.
السؤال الآن إلى هؤلاء الذين يستمتعون بجلد الناس وتحميلهم المسؤولية دائما وأبدا، أى نموذج من هذا تختاروه لمصر؟.
مهما كانت الإجابة، فإن النماذج الأربعة تحمل المسؤولية الأكبر في النهاية للحاكم بغض النظر عما إذا كان ديكتاتورا أو غير ديكتاتور، مستنيرا أو غير مستنير، حكيما أو غير حكيم، فى كل الأحوال هناك مسؤولية تقع على السلطة فأين أنتم من هذه النماذج جميعا؟.
هل تريدون لمصر أن تكون مثل الدولة القائد؟ حسنا، أين المشروع الكبير الذي سيسحق الأفراد من أجل أسطورة الدولة؟ أين مجموعة القادة المتماسكين فكريا الذين سيتمكنون من وضع سياسات مستدامة للتنمية؟ أين الحزب الواحد القوي مؤسسيا المتغلغل تنظيميا في كل شبر فى البلاد؟ ثم هل تملك مصر نفس الثورة البشرية أو المساحة الجغرافية والثروات الطبيعية والظروف التاريخية التى تملكها الدولة القائد؟ ألم تجرب مصر نموذج مشابه (دولة الاستقلال الوطنى) وانتهى هذا النموذج بالفشل بل وتتهموه أنتم أنفسكم بالمسؤولية عن التراكمات التى تعاني منها مصر الآن ؟.
هل تريدون لمصر أن تكون مثل الدولة القبيلة؟! أين القبيلة الحاكمة؟! أين الثروات النفطية أو غير النفطية بالإضافة لعدد السكان المحدود لبناء شرعية ريعية أو دينية أو نفطية؟
هل تريدون لمصر أن تكون دولة منسحبة يتحمل أفرادها مسؤولية النجاة فى الحياة كل بحسب مؤهلاته ومهاراته فيصفون بعضهم البعض لصالح المرشح بيولوجيا واجتماعيا للبقاء؟! إذن فأين التعددية السياسية والحريات التي لا غنى عنها لتسويق هذا المنطق الإنسحابى؟! ثم هل تريد مؤسسات الدولة فى مصر فعلا الانسحاب ؟! أعتقد أن الردود منذ ٢٠١١ تغنيني عن الإجابة.
هل تريدون لمصر أن تكون دولة المسؤولية الاجتماعية، الدولة التى تفطر مع الفقير وتعطف على المساكين؟! إذن فأين التعددية السياسية التي تسمح لهذا الشعب بمحاسبة دورية لكل من يرى في نفسه القدرة على الحكم والارتقاء الاجتماعي والاقتصادي والصحي بالمواطنين؟.
***
الأزمة الحقيقة التى تعاني منها مصر ويعانى منها مثل هؤلاء هى أنهم لا يعرفون ما هو النموذج الذي تريده مصر، وبالتالى فهم غير قادرين على تحديد المساحات الفاصلة بين مسؤولية الدولة والمجتمع! دولة قائد لكن بلا مشروع! دولة الأب الحنون لكن دون موارد! دولة تفطم مواطنيها من الاتكاء الاقتصادى على ثديها لكن دون أدنى استعداد لتقديم أى مساحات سياسية بديلة للتنافس! دولة الهيبة لكن دون مسؤولية سياسية عن أي كوارث أو مصائب هنا أو هناك! دولة الحاكم عطاء الرب للشعب فى وقت انتهى فيه عصر الأنبياء والمرسلين وأنصاف الآلهة، عصر انتصر فيه العلم على الدروشة.
بوضوح، الشعب المصرى غير مسؤول عن أي فشل عام أو قومى، كما أن شعوب العالم غير مسؤولة عن أي فشل عام طالما أنها غير ممكنة ولا تُحكم سوى بالحديد والنار وجرعة غسيل الأدمغة عن طريق الترويج لهذه الأفكار البائسة من جلادى الشعب.
الدولة ليست كيانا خيريا ليجمع الفكة، أو ليصبّح عليها شعبها بجنيها، الدولة ليست مقاول بناء لتكون انجازاته هى عدد الأبنية التى تم الانتهاء منها وتسليمها على المفتاح! كما أن الدولة ليست مصدرا لأي قيم أخلاقية أو فلسفية حتى تطلب من شعبها انتظار المفاجآت غير المتوقعة بشرط الصبر والالتزام بالآداب العامة! الدولة هى كيان اعتبارى مسؤول أمام الشعب الذي هو الأصل فى الاستقرار أو التغيير.