بشار جرار يكتب عن احتجاجات "الضريبة" في الأردن: حراك "الرابع" والحل المنشود
هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
تحول فيديو صادم لفتاة ادعت تعرضها للضرب على أيدي قوات حفظ النظام في الأردن إلى أشبه ما يكون "محاكمة شعبية" انتهت بطرد "السحيج" الذي شكك بروايتها. ولمن لا يعرف اللهجة الأردنية فإن ذلك المصطلح من التسميات التي راجت في "الربيع العربي" المشؤوم بتصنيف الناس بين مؤيدي رأس السلطة ومعارضيه كالبلطجية والفلول والشبيحة في حالتي مصر وسورية.
ما هي إلا بضع ساعات حتى جاءت الحقيقة ساطعة صادمة أقل ما يقال فيها إجماع أكبر على افتراء المدعية وفضح نوايا محرضيها لإحداث "فتنة".
سبق هذه الحادثة، محاكمة من نوع آخر بين رئيس الوزراء د. عمر رزاز مع مجموعة من "حراكيي الرابع" -وهو مقر دار رئاسة الوزراء الحالي على الدوار الرابع في جبل عمّان أحد أحياء العاصمة الأردنية. المحاكمة كانت سابقة، فيما اعتبره البعض جرأة والبعض الآخر جراءة بلغت حد "التطاول" على مقام رئيس الوزراء بلغة انفعالية سطحية تصدق في وصف الحال في دول كثيرة غنية مستقرة متطورة من بينها فرنسا و"ستراتها الصفراء." محاكمة الرزاز ومن خلاله الحكومات التي سبقته والنهج الذي لم يتغير بما يقنع الناس، انتهت بدعوة رئيس الوزراء الشباب إلى التعبير بحرية ولكن بنظام دون تجاوزات أو إساءات.
ولأن نهج الشخصنة والتعميم في آن واحد من عجائب العمل السياسي في الشرق الأوسط، لم يختلف ذاك الشاب "الحراكي" وغيره من الحراكيين الشباب والكهول عن أحد رموز المعارضة الأردنية الذي اختزل تخاطبه مع رئيس الوزراء برسالة علنية استهلها بالآتي: من ابن فرحان شبيلات إلى ابن منيف الرزاز! في مقابل هذه الشخصنة كان التعميم والقطعية في الحكم على الأمور وكأن الزمن قد توقف عند مرحلة ما أو جيل ما! كأن الإقطاع السياسي "اللبناني" لم يكن كارثيا ما يكفي ليصار إلى الابتعاد عن كل ما حمله من تجارب وأهمها الاستقواء على الداخل بالخارج والتطاول على مؤسسات الدولة وأخطرها الجيش.
خطورة الموجة الثانية من "حراك" ما بعد سقوط "الربيع العربي" أنها الأولى ضد الحكومة التي خلفت حكومة أطاح بها حراك "الرابع" على خلفية قانون الضريبة. ورغم الارتياح العام لاختيار الرزاز خلفا لرئيس الوزراء المقال د. هاني الملقي، إلا أن خيبة الأمل الأولى كانت أسرع من المتوقع تمثلت باختيار الفريق الوزاري ليصار بعد بضعة أشهر إلى إجراء تعديل زاد من خيبة البعض الآخر فيما يرى كثيرون أنه "ما كان بالإمكان أحسن مما كان" من حيث نزاهة الرئيس وكفاءته وصدقه في العمل الميداني والإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
لكن تضخيم حجم الرئيس ومقارنته بالأيقونة الأردنية الشهيد وصفي التل ظلمه وظلم فريقه وبرنامج عمله. فلكل زمن تحدياته ولكل مرحلة رجالها. وتلك معضلة أخرى في الثقافة الأردنية والعربية عموما، وهي رفض الأدوار كلها سوى دور البطولة حيث تغيب روح الفريق وسنّة الاجتهاد الذي يحمل الصواب والخطأ وأخلاقيات تداول السلطة والبعد (إبعادا أو ابتعادا عنها) وحتى أخلاقيات التقاعد من العمل العام.
إن المراقب للشأن الأردني من الداخل أو حتى الخارج لا يستطيع إنكار حجم الضغوطات الخارجية والتحديات الداخلية والإقليمية التي تفشل رئيس وزراء بحجم تشرشل ما لم يؤازره شعب من خلال برلمان منتخب انتخاباً حقيقياً. تشرشل صانع النصر على النازية لم تنل من إرادته وإرادة شعبه همجية القصف النازي والتآمر والتجسس عبر وكلاء وعملاء ونشطاء النازي باسم شعارات كبيرة طنانة تحيل العمالة والخيانة إلى وجهة نظر!
أعود لتلك المحاكمتين فأقول: الشاب تفوه "بالكفر" بحضور رئيس الوزراء، والشابة تفوهت بشتائم وافتراءات وتهديدات من ضمنها الرغبة "بالهجرة وطلب الحماية من إسرائيل بدلا من الذل لدى العرب". قطعا، لا يمثل هذين النموذجين على تباينهما، الحراكيين، لكنهما "مشكورين" لخصا جانبا كبيرا من معضلة الحكومات الأردنية.
الصدق مع الذات ومع الآخر هو الحل. "الدوار الأول" هو الحل حيث برلمان أيام زمان "نادي الملك حسين" حاليا. زايدَ كثيرون على الحسين، لكن الحسين ورجاله (كوصفي وحابس و"أبو رسول"..) نجحوا في تحويل التحديات إلى فرص. صحيح أن الفساد والإرهاب لم يكن ليستفحل ويستشرس كما هو الحال الآن في العالم كله، إلا أن سر النجاح كان في التواصل الدائم والثقة المستدامة بين القيادة والناس. من هنا تأتي دعوات تغيير النهج بعد "كفر" الناس بوزراء "التكنو والديجيتال"!
وبعيدا عن مقولات رؤساء وزراء سابقين عن "كبار البلد" و"حواف" الأردن المتكررة، ثمة شبه إجماع في الأردن على ركنين وحصنين لا ثالث لهما: العرش والجيش. وعليه، بشّر البعض بالحاجة إلى حكومة انتقالية لا يقل عمرها عن خمس إلى عشر سنوات من العسكريين المتقاعدين "القدامى والجدد" كل في اختصاصه، مطعمة بشخصيات وطنية وازنة محل إجماع بعيدة تماما عن شبهة الفساد يؤازرها مجلس وطني استشاري على غرار المجلس الذي توسط مرحلتين هامتين في تاريخ الأردن الحديث وهما فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية واستئناف الحياة الديمقراطية البرلمانية في الأردن وتشكيل الميثاق الوطني الأردني الذي جاء ببرلمان ما زال يعتبر إلى يومنا هذا الأصدق تمثيلا للأردنيين.