"توتة توتة توتة..ولا تخلص الحدوتة.." فاتن حمامة لم ترحل عنا
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- أحب أن أسميها "نعمة" أو "فاطمة" أو "منى" أو "عائشة"، هي "قبيلة من النساء،" كما قال الشاعر السوري نزار قباني، تلك النساء المناضلات في العشق، والعائلة، والزواج، والمجتمع، واللواتي عجنت شخصيتي كل منهن بلمستها الخاصة. لم تكن الأفلام المصرية هجينة عن بيتنا في طفولتي، وخصوصاً عندما تمكنت والدتي رغم الحالة المادية الصعبة، من شراء جهاز الفيديو الأسود الكبير. كانت تلك رفاهية لا تحظى بها الكثير من العائلات. في كل أسبوع تستأجر والدتي أفلام الفيديو المستطيلة السميكة، والتي تغطيها أغلفة "هوليوودية مصرية" من عند "عمو واكيم" الذي كان يمتلك محلاً لبيع وتأجير أفلام الفيديو والكاسيت تحت بيتنا. ورغم صغر سني وبراءتي، لم تجد أمي مهرباً من إصراري على مشاركتها في مشاهدة الكثير من الأفلام المصرية "الأكشن" والتي باتت طقساً في بيتنا، يبدد شيئاً من الوحدة والعزلة التي أسدلت فيها الحرب الأهلية اللبنانية بسوادها علينا. مخدرات، ودعارة، وعلاقات محرمة.. كنت أخاف على من أحبهم، من هذه المشاهد القاسية في الأفلام المصرية، وكانت تترك أثراً مزعجاً في أحلامي وكوابيسي وتفاصيل حياتي اليومية.
ولكن، بعيداً عن تلك الصورة السوداوية للأفلام المصرية، كانت "نعمة" في فيلم "أفواه وأرانب" التي جعلتني أرى الحياة بنظرة مختلفة. وتمكنت "فاطمة" في "ليلة القبض على فاطمة" من أن تجعلني أحب المرأة في داخلي. أما "منى" و"عائشة" في "امبراطورية ميم" و"يوم حلو يوم مر" فأخذتاني في رحلة شاقة، تعرفت فيها إلى ما بوسع المرأة القيام به. وهو كثير جداً.
فاتن حمامة.. كنت أحب بشرتها البيضاء التي ما زالت تذكرني بكوب حليب دافئ في الصباح، وأنفها الصغير الذي يشبه أنف "الببغاء" بتلك العكفة في آخره، وفمها الصغير الذي كانت الكلمات تنساب منه بسلاسة. كنت أتخيلها مرطبان من العسل، وأنا النحلة التي تسرق منه ما يرطب لسانها. عشقت فاتن حمامة، برقتها وشفافيتها، التي كانت تشبه المرآة التي تسمح إلينا بالنظر من خلالها. وعشقتها أيضاَ لأنها كانت مثل الجدار الصامد، الذي لا يمكن هدمه أو اختراقه. كانت التناقض بعينه، الأنوثة الكاملة، والذكورية الملحة في مجتمع يستضعف النساء.. المرأة الجدعة والغلبانة، والحالمة والواقعية، والعاشقة والأرملة، والفقيرة والغنية، والمتعلمة والجاهلة، والقوية والضعيفة، والراضخة والمتمردة.
هكذا كنت أراها أيضاً في الحياة العادية، لم أكن أتخايلها مختلفة في حياتها اليومية عن الأدوار التي كانت تلبسها في أفلامها. كنت أراها "نعمة" و"فاطمة" و"منى" و"عائشة."
كانت فاتن حمامة "سيدتي،" أنا وحدي، في شاشتي الصغيرة. عندما أتوق إلى الحزن، أذهب إليها، وعندما أشتاق إلى البكاء، أجعلها تحضنني، وعندما أتعطش لجرعة قوة، أسمح إليها بأن تمسك بيدي.
كانت فاتن حمامة تسكن في عمارتنا، وفي الشقة المواجهة لشقتنا. كنت أراها بشخصية جارتي "طنط ماري" التي قاربت الآن التسعين من عمرها، وما زالت تشاكس الموت. كان لـ"طنط ماري،" الملامح الدقيقة ذاتها لفاتن حمامة، الأنف والفم الصغيران، والعينان الرقيقتان، والشعر القصير ذاته. والأهم من ذلك كله، أنها كانت مصرية، كنت أزور "طنط ماري" يومياً بعد المدرسة، لأسمع اللكنة المصرية الممزوجة بالفرنسية، ولأشعر بذلك التشابه المنسجم بين الإمرأتين المتمردتان على التقاليد. كانت الإثنتان "سوبر وومان" بمنظاري الطفولي.
لسنوات طويلة، كنت أتخايل أن فاتن حمامة تهمس بأذني، أن لا أسكت عن الحق، وأن أكون قوية، ولا أدع أي شيء يكسرني في الحياة. علمتني أن ليس كل قصص الحب بالضرورة سيكون لها نهاية جميلة، وأن الحياة هي كتلة عقد ومشاكل وتناقضات، وأن الحق يجب أن لا يسكت عنه، وأن أي كائن بشري مهما كان يمكن أن يقف في وجه الظلم. علمتني، كيف أتآلف مع الفقر، ولا أتعاط معه كعدو، بل كصديق ثقيل، أحاول استيعابه، ومضغه، حتى أصبحت هي سيدته في "أفواه وأرانب." وعلمتني أن لا أخاف من المرأة الأرملة، لأن تلك المرأة ذاتها يناسبها زي "سوبر وومان" أكثر من أي امرأة أخرى، عندما لا تتخلى عن أولادها تحت أي ظروف. وعلمتني "التمرد" وأن لا أفعل إلا ما أشعر أنه حقيقي.
رأيتها يوماً في العام 2001، كانت تبعد عني خطوات قليلة، ولكن لا أعلم إذا كانت هي قد لاحظتني. كنت على وشك دخول العقد الثاني من عمري خلال فترة تدربي في صحيفة النهار اللبنانية، في سنتي الجامعية الأولى، وأول موضوع وكلتني به الجريدة، هو الذهاب إلى مطار بيروت الذي أصبح الآن مطار رفيق الحريري الدولي، لأن فاتن حمامة ستزور لبنان.
عشقت فاتن حمامة أكثر لأن أول موضوع لي، في حياتي الصحافية، ذيل باسمي، كان عن فاتن حمامة. اعتقدت لوهلة، وأنا في المطار، أن فاتن حمامة عندها ستنظر إلي نظرة حب، ستعلم أنها بطلتي أنا وحدي، ولكن ضاع رأسي الصغير بين الصحافيين، وبالتأكيد لكل منهم قصة حب خاصة في قلبه لفاتن حمامة.
وسأسمح إليك بأن تغني لي دائماً، "توتة توتة ولا تخلص الحدوتة، دي بتبدأ من جديد، ما دام في كل جانب أفواه على أرانب بياكلو في الحديد."