رأي: مسلسل "قيد مجهول".. البطولة للأداء المتقن والمجد للتفاصيل
هذا المقال بقلم سامية عايش، صحفية مستقلة تكتب عن السينما العربية المستقلة، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتبة ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
في المشهد الثاني من الحلقة الأولى لمسلسل "قيد مجهول"، يستيقظ سمير من نومه بعد كابوس مزعج. يمد سمير يده إلى الطاولة المجاورة ليتناول هاتفه ويتأكد من الوقت. هذه الطاولة لفتت انتباهي: حوافها المتآكلة، لونها البني الباهت، ملمسها الذي يبدو خشنا كخشونة حياة هذا الشخص النائم على السرير بجانبها. بعد أن رأيت تلك الطاولة بالتحديد، تأكدت أننا أمام عمل درامي التفاصيل فيه هي البطل الأول.
يحكي المسلسل، المكون من 8 حلقات، قصة سمير، رجل بائس بكل ما للكلمة من معنى، يحارب من أجل لقمة حياته اليومية، مواجها زوجته، ابنته، زملاءه في العمل، مديره والمجتمع بأكمله. صديقه الوحيد، يزن، يختلف عنه تماما: شاب في مقتبل العمر، متأنق، يهتم بمظهره، شجاع إلى حد الجنون.
في الصباح يعمل سمير في مشغل للخياطة، ومساء، يقود سيارة أجرة عله يعيل عائلته الصغيرة.
على وسائل التواصل الاجتماعي، احتفت الغالبية بهذا المسلسل، وكانت كل ردود الأفعال بعد مشاهدته إيجابية جدا، فمن الناس من مدح الأداء الخارق لكل من عبدالمنعم عمايري وباسل خياط، فيما أثنى البعض الآخر على التصوير الساحر والمشاهد المرسومة بريشة فنان للمخرج السدير مسعود وطاقمه، فيما رأى البعض الآخر أن القصة وحبكتها جديرة بالاحترام والتقدير.
نجاح العمل بالتأكيد هو خليط من هذه الأفكار المختلفة، ولكن برأيي أعتقد أن التفاصيل الموجودة في هذا المسلسل هي التي بتنا نفتقدها في هذا الزمن: الزمن الذي لا زالت فيه المسلسلات تعتمد على 30 حلقة، كثير منها مشاهد طويلة ومملة من دون أي فائدة، إضافة إلى العجلة في التصوير قبل بدء الموسم الرمضاني.
هل لاحظت الملابس التي يرتديها سمير في المسلسل والتي تبدو أكبر حجما من مقاسه العادي؟ هل انتبهت إلى هاتف سمير وحذائه ولحيته التي يملؤها الشيب؟ حتى سيارة الأجرة التي يقودها سمير ليلا تشبهه بكل تفاصيلها القديمة والبالية.
لطالما كان عتبي على المسلسلات العربية في الآونة الأخيرة أنها تقدم الفقر ولكن بصورة مثالية: أي أن يكون البيت متواضعا، قد لا يحتوي على الكثير من الأغراض، ولكن كل شيء فيه يبدو جديدا وملونا ومشرقا، فبالتالي لا يبدو في النهاية الفقير فقيرا! في قيد مجهول، الأمر مختلف، فالاهتمام بكل هذه التفاصيل ليس بالأمر الثانوي، ويوازي في أهميته الإشراف على الممثلين والممثلات وإدارتهم.
عبدالمنعم عمايري… ماذا نقول؟
شاهدت عبدالمنعم عمايري في الكثير من المسلسلات، ودائما أدواره تعجبني: الدرامي والكوميدي والعاطفي. ولكنه في قيد مجهول، صنع بعدا آخر للتمثيل، ما جعله يستحق لقب "وحش تمثيل". كل تفصيل في جسده ووجهه وحتى شعر لحيته كانت تتحدث وتؤدي جزءا من دور سمير. هناك لحظة تتكرر باستمرار في المسلسل: يكون فيها سمير حزينا ويشعر أن الدنيا تظلمه، ولكن بجملة واحدة من يزن مثل "عندي إلك أخبار حلوة، البيت انباع" أو "المصاري صاروا معي بالسيارة" تنفرج أسارير سمير وتستقر الراحة على وجهه ويقول: "بشرفك"! في تلك اللحظة فقط كنت دائما أشعر بالارتياح، ربما لأن حياة هذا المسكين لا تتوقف عن التدهور إلى الأسوأ.
باسل خياط … تلك العينان
باسل خياط فنان يتميز بشيئين: الصوت والعينان. العينان بالتحديد تدور فيهما كل شخصية باسل، إن كانت الشر، أو الطيبة، أو الحكمة، أو حتى الفرح والحزن. وهذه الميزة لا تتواجد عند أي ممثل. وفي هذا المسلسل، كانت عينا باسل خياط هي الشر، وهي الشيطان، وهي الآمر الناهي، ومن خلالهما يتحدى سمير كل العالم. بالنسبة لي، كانت تلك الشراكة ما بين باسل خياط وعبدالمنعم عمايري موفقة جدا.
قيد مجهول.. ما بين عالمين
في المسلسل عالمان، الفقراء وفاحشو الثراء. كل لديه همومه ومشاكله، وفي هذا المسلسل يتقاطع العالمان أكثر من مرة. لعل المرة الأكثر إثارة، هي التي يدخل فيها سمير إلى منزل مثنى حاملا صندوقا لتمام، فيكسر مزهرية ثمينة، تدفع مثنى إلى أن يغضب ويلقي جام غضبه على سمير، وليذكره أنه مهما فعل واجتهد وتعب، فسيبقى تحت الأرض، بينما هو، أي مثنى، وأمثاله سيبقون في الأعالي.
تحفظي الوحيد على هذا العمل، وعلى بعض المسلسلات العربية في الآونة الأخيرة، هو أنها في مجملها أصبحت مثل القالب - Template - أي أن هذا المسلسل إن أخذناه إلى المكسيك، واستبدلنا نجومه السوريين، بنجوم من المكسيك، وقاموا بتمثيل نفس القصة، فلن يكون ذلك صعبا أبدا، ذلك لأن القصة، برغم تفاصيلها البصرية العميقة، لا توجد فيها تفاصيل مرتبطة بمحلية المكان، أو الزمان.
برغم أن الجمهور في هذه الحالة هو أوسع، لأنه سيكون جمهورا عالميا، إلا أنه يفقد العمل الفني ارتباطه بخصوصية المكان والمجتمع، وبرأيي إن فقدت هذه التفاصيل، فهو بشكل أو بآخر "انصياع" لمتطلبات وشروط المنصات العالمية التي تعرض هذه الأعمال، وبالتالي عدم قدرتنا على تقديم قصصنا المرتبطة بظروفنا وإشكاليات واقعنا.
هذا الأمر، يجعل من رجال الأمن مثلا على اختلاف طرقهم في التعامل بين المجتمعات المختلفة، يظهرون بشكل واحد، مؤدين واجباتهم بشكل مهني، بعيدا عن كل ما يتم تداوله حول أساليبهم. فرجل الأمن السوري، يظهر كرجل الأمن الياباني، أو كرجل الأمن الأرجنتيني. هذا التقديم خطير، لأنه ينسينا حقائق يجب أن لا تغيب أبدا، وأحداثا تجري من حولنا في مجتمعاتنا العربية لا بد أن توثق حتى وإن كان ذلك من خلال مسلسل أو فيلم درامي.
باختصار، إن لم تسنح لكم الفرصة لمشاهدة قيد مجهول حتى الآن، أنصحكم بمشاهدته، لأن كل مشهد فيه يستحق النقاش والدراسة، وأتمنى أن يكون بداية، مع أعمال أخرى، لنوع جديد من الدراما، نخرج فيه من عباءة رمضان، والثلاثين حلقة، والنجم الأوحد، والقصص المستهلكة.