كيف وقعت في حب فيلم قصير اسمه "تالافيزيون"..
هذا المقال بقلم سامية عايش، صحفية مستقلة تكتب عن السينما العربية المستقلة، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتبة ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
منذ صغري، تعلقت بشاشة التلفزيون. كان لجهاز التحكم سحر خاص يرتبط بالشعور بالقيادة والقوة. كان التلفزيون النافذة التي تفتح أمامي عالما من الصور والقصص والحكايات والوقائع التي لا تنتهي. ومن هناك أحببت السينما، وأحببت المسلسلات، وكل ما هو صورة تتحرك وتحرك فينا العواطف والأحاسيس والمشاعر.. بالتالي، لم يكن غريبا أبدا أن أقع في حب فيلم قصير اسمه "تالافيزيون".
يحكي هذا الفيلم قصة الطفلة تالا، التي تعيش في سوريا خلال فترة حكم داعش. تربطها علاقة وثيقة بالتلفزيون، وتحب بالتحديد مشاهدة مباريات كرة القدم. وسط الظروف الصعبة والحرب، تحرم تالا من مشاهدة التلفزيون بعد أن يرميه والدها من الشباك، وذلك لأن داعش حرّمت في ذلك الوقت مشاهدة التلفزيون، وكان عقاب من يكتشف أن لديه جهاز تلفزيون في المنزل قاسيا جدا.
يستعرض الفيلم العلاقة بين تالا ووالدها، علاقة تبدو بسيطة، ولكن فيها تعقيدات تفرضها الحرب وداعش والدمار وعلاقة الأبوة بينهما. فأنت عندما تبدأ بمشاهدة الفيلم، تعتقد أن والد تالا شخص عنيف، يعامل ابنته بشكل سيء، لكن الظروف المحيطة بالعائلة تكشف أن هذه المعاملة ما هي إلا نتيجة تلك الظروف، والتي حتمت على الأب أن يكون قاسيا تماما كالبيئة التي يعيشون فيها.
تحدثت إلى المخرج مراد أبو عيشة عن الفيلم وعن الفكرة، ومن أين نبعت. قال لي إنه في أحد الأيام قرأ خبرا في الصحيفة اليومية يقول إن داعش منعت مشاهدة التلفزيون بشكل قاطع، ولارتباطه الشديد بهذا الجهاز، قرر أن يكتب الفيلم وينفذه، ويسلط الضوء من خلاله على واقع الحرب الذي يحرم الأطفال أبسط حقوقهم في الاستمتاع والبهجة. (شاهدوا المقابلة كاملة أعلى هذا المقال)
لماذا ترتبط تالا بهذه العلاقة القوية مع التلفزيون؟ ربما لأنه النافذة الوحيدة أمام هذه الفتاة لترى عالما بعيدا عن الدمار والخراب، أو ربما لتطرد الوحدة والملل التي تحيط بها من كل جانب، أو ربما لتشعر بأنها تحقق ذاتها من خلال مشاهدة كرة القدم الممنوعة هي من لعبها بسبب ظروف حرب، وربما لأن التلفزيون بالنسبة لتالا ليس فقط هذا الجهاز المكعب الذي يصدر أصواتا ويعرض صورا، وإنما هو كل مشهد يحيط لها من كل جانب.
لن أنس أبدا المشهد الذي يدور فيه حوار بين الأب وجاره يختلفون فيه على مبلغ من المال: تالا تتواجد في الغرفة المجاورة، وتتابع من ثقب الباب ما يجري، وتبدو طريقة تصوير المشهد وكأنها تنظر إلى مشاهد من مسلسل أو فيلم سينمائي. ولعل هذه هي رمزية التلفزيون في العمل، فهو في النهاية جهاز يطلعنا على ما هو أبعد من محيطنا، ولكن محيطنا في نهاية المطاف مليء بالقصص والحكايات التي لا تنتهي.
على خلفية الحرب، يقدم الفيلم قصته، ويجعل من الحرب محفزا لبعض المشاهد، ولكنه أيضا يأتي في وقت وزمن تظهر من خلاله قضايا إنسانية أخرى من المهم أن تضيء عليها السينما، كحق الأطفال في اللعب والتعليم، وتجاهل سلامة المدنيين في الحرب، ولا ينفك الفيلم أن يذكرنا بأنه في الحرب الكل خاسر: صغار وكبار، وكما يظهر في النهاية (والتي لن أكشف عنها)، يبقى المصير هو المجهول، إذا لا يعلم أحد ما إذا كان سينجو من مخالبها، أم سيكون الموت مصيره في النهاية.
يثنى على الفيلم أيضا اختيار الفتاة التي أدت دور تالا، عائشة بلاسم، التي بدت بملامحها وشكلها وتعابير وجهها وكأنها ابنة هذه الحرب وهذه الظروف، وهو ما أكده مراد خلال سياق حديثنا بالقول إنه لم يكن سهلا اختيار الفتاة، فقد تم اختيارها من بين 200 فتاة، واكتشف الفريق لاحقا أن عائشة تأتي من أصول سورية، وأتت هي وعائلتها إلى الأردن، ولا زالت تعاني من ويلات الحرب التي هجرتها مع أهلها.
نجح الفيلم أيضا في أن ينقلنا داخل مساحة تالا الصغيرة إلى عالم خيالي: تالا تهرب من واقعها، تختبئ من والدها، تصنع غرفة صغيرة من أقمشة بالية، حتى تستمتع بآخر ما تبقى لها في هذا العالم البشع: التلفزيون ومشاهدة كرة القدم، ولربما في هذه المساحة الصغيرة، وضعت تالا نفسها داخل جهاز تلفزيون تعيش فيه القصة كما تريد هي، وليس كما يريد تنظيم داعش منها ومن عائلتها ومن كل من يعيشون تحت سيطرته.
الفيلم بسيط، وقصته سلسة، وتحمل معان تستدعي التفكير والتعمق بالتفاصيل الصغيرة في حياتنا، وتعلمنا أن خبرا صغيرا في صحيفة يومية، يمكن في يوم من الأيام أن يقود إلى صنع فيلم مدهش يوما ما، ولربما هذا هو السبب الحقيقي الذي جعلني أقع في غرام هذا الفيلم.