رأي: فيلم "الأستاذ".. أن تشرح معاناة الفلسطينيين في 120 دقيقة
هذا المقال بقلم سامية عايش، صحفية مستقلة تكتب عن السينما العربية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتبة ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
بعد انقطاع طويل عن مشاهدة الأفلام والسينما، سببه الوضع العام في العالم العربي، وفي غزة بالتحديد، قررت العودة إلى أكثر ما أحب في حياتي: مشاهدة السينما والكتابة عنها. وبالتأكيد، خلال هذه الفترة بالتحديد، وتماشيا مع كل ما يجري، وجدت أن أفضل فيلم لإعادتي لما أحب هو فيلم "الأستاذ" للمخرجة الفلسطينية البريطانية فرح النابلسي، الذي يعرض الآن في دول الخليج.
يحكي فيلم "الأستاذ" قصة معلم مدرسة تربطه علاقة قوية بأحد طلابه، وتقربهما أكثر عملية خطف جندي إسرائيلي قد تحدد مصير شعب بأكمله. هناك الكثير من التفاصيل في قصة الفيلم، لو أضأنا عليها هنا، قد يتسبب ذلك بحرق الكثير من الأحداث، لذا أترك لكم/ن فرصة المشاهدة واستكشاف القصة بأنفسكم/ن.
لا أنسى أبدا المشاهد الأولى من الفيلم، التي تضع المُشاهد في أجواء ما هو مقبل على مشاهدته: رجل أربعيني يقود سيارته من منزله إلى المدرسة، يدخن سيجارة، وعلى جنبات الطريق، نرى الجدار العازل في الضفة الغربية، الحواجز التي توقف الفلسطينيين لساعات، الجنود الإسرائيليين الواقفين إلى جانب هذه الحواجز، مدججين بالسلاح خوفا من أي "هجوم" أو "حركشة"، السيارات العسكرية التي تجعل من هذا المكان الجميل بطبيعته الأخاذة مكانا موحشا مخيفا. نرى أيضا المستوطنات التي تعتلي رؤوس الجبال، وتطل على منازل فلسطينية متناثرة هنا وهناك على جنبات الجدار العازل. بعد أن تشاهد هذا المشهد بالتحديد، اعلم/ي أنك على وشك الغوص في قصة تتحدث عن الظلم والجبروت بحق شعب كامل.
يعالج الفيلم عدة قضايا وقصص يعيشها الفلسطيني يوميا، كهدم المنازل مثلا. ففي أحد المشاهد، يصل الأستاذ إلى منزله، ليجد جيرانه يصرخون على جنود إسرائيليين على وشك هدم منزلهم. كلها لحظات، وتبدأ الآلية بهدم جدران المنزل، وسكانه يشاهدون. كل ما يمكنك التفكير به في تلك اللحظة هو: ماذا لو كان هذا منزلي؟ كيف سيكون شعوري؟
تداخلات كثيرة بين شخصيات الفيلم تزيد من تعقيد القصة مع الوقت، ولكنها في نفس الوقت حالة إنسانية بسيطة يعيشها الفلسطيني يوميا. ففي الوقت الذي تبدو فيه الأشياء خارجة عن المعقول وغير حقيقية بالنسبة لنا كأشخاص يشاهدون فيلما كهذا، تبدو الأمور بالنسبة للفلسطينيين الذين يعيشون هذا النوع من المعاناة أمرًا مفروغًا منه.
ولعل هذا يظهر واضحا في مشهد حرق أشجار الزيتون، حيث يلمح أحد الجيران مستوطنين في كرم الزيتون يحرقون الأشجار، فتهرع العائلة لإنقاذ ما تبقى من الأرض، لكن صوت إطلاق النار في تلك اللحظة، يجعلنا ننسى الزيتون والحرائق والأرض، ونركز على من تلقى جسده الرصاصات. ندرك الإجابة لاحقا، ولكن لا زالت عيون ذلك المستوطن الجشع الحاقد راسخة في أذهاننا، فهو في تلك اللحظة وبنظراته يتحدى أصحاب الأرض، ويتحدى أيضا الجمهور الذي يجلس أمام الشاشة يتابع سير القصة، فيذكرنا أن الإفلات من العقاب أصبح سمة في هذا الزمن.
نتعرف إلى ليزا، الشابة البريطانية التي تعمل مع الشباب الأحداث الفلسطينيين بعد خروجهم من السجن الإسرائيلي، والتي تتطور بينها وبين الأستاذ علاقة حب وصداقة قوية، وتساعده في الوقوف إلى جانب الطالب آدم، الذي يتعرض إلى صدمات متتالية في حياته، بدءا من حبس أخيه، إلى هدم منزله، وكل ما يليها من صدمات متلاحقة تظهر في الفيلم. ليزا تذكرنا دائما أن جزءا كبيرا من هذا العالم يقف إلى جانب الفلسطيني في وجه الاحتلال والعدوان، وأن السردية لا زالت قائمة وتتغير إلى صالح الفلسطينيين في وجه البروباغاندا الإسرائيلية.
لعل المشهد المحوري في الفيلم هو ذلك الذي جمع الأستاذ بوالد الجندي المختطف، حيث صنعت المخرجة، وهي أيضا كاتبة الفيلم، مقاربة بين أبين يأتيان من سياقات مختلفة، ويعقدان مقارنة بين حياة وسلامة ابنيهما، فوالد الجندي المختطف يشتاق لابنه، ولا يعرف مصيره، ويتمنى أن يتوصل إلى أي معلومة تنقذ حياته، أما الأستاذ، وهو أب لطفل فلسطيني، سجن وهو لم يتجاوز الستة عشر عاما، بسبب مشاركته في مظاهرة ضد إسرائيل، فهو يتمنى لو تغيرت الظروف والأحداث ولم يسمح له بالذهاب إلى المظاهرة. غير أن الجملة التي تترك أثرا عميقا في نفس كل من يشاهد الفيلم هي تلك التي قالها الأستاذ: "لا يمكنك مقارنة ابنك بابني، فبالنسبة للعالم، ابنك يساوي ألفا من ابني."
يؤدي الممثل الفلسطيني صالح بكري دور الأستاذ، وقد أصبح صالح علامة كبيرة في السينما الفلسطينية، بجسده النحيل، وملامحه السمراء، وقدرته على تقديم شخصية الفلسطيني بكل أشكالها. وهذا ليس التعاون الأول بين فرح النابلسي وصالح بكري، بل سبق وقدم دور الأب أيضا في فيلمها القصير "الهدية".
كنت أتمنى لو انتهى الفيلم عند مشهد الجنود الإسرائيليين وهم يقبضون على الأستاذ، ويطرحونه أرضا والكاميرا قريبة جدا من وجهه. كنت أحب لو أن هذا هو المشهد الذي يرسخ في عقل المشاهد مع نهاية الفيلم، لنتذكر أن هذا الظلم مستمر ولم يتوقف.
فرح النابلسي، وبهذا الفيلم، قدمت شكلا سينمائيا يفهمه الجميع، ويتقبل سرديته، ويجعله باستخدام الصورة البصرية يفهم أن هناك أشكالا متنوعة لمعاناة الشعوب، ولكن هناك شعوبا معاناتها تنتهي مع نهاية المشكلة، وهناك شعوب معاناتها تستمر ولم يكتب لها، بعد، أن ترى الضوء في نهاية نفق معاناتها. "الأستاذ" فيلم يفهمه الفلسطيني والعربي والأجنبي; فيلم يشرح معاناة الفلسطينيين في 120 دقيقة فقط.