رأي.. سامية عايش تكتب لـCNN عن مقابلة جمال سليمان الأخيرة.. كيف يعيد الفنان المثقف الثقة بالدراما العربية؟

نشر
9 دقائق قراءة
رأي سامية عايش
Credit: AlarabyTube

هذا المقال بقلم سامية عايش، صحفية مستقلة تكتب عن السينما العربية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتبة ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

علمتنى أمي منذ كنت طفلة صغيرة أن المثقف هو من لا يقطع الإشارة الحمراء حتى وإن كانت الساعة الثانية صباحاً. لكن أمي لم تقل لي أبدا أن المثقف قد يكون أيضا على هيئة ممثل يدعى جمال سليمان.

محتوى إعلاني

تابعت مؤخرا اللقاء الذي أجراه النجم السوري مع الإعلامي جاد غصن عبر بودكاست "هامش جاد". ثلاث ساعات من المتعة في الاستماع إلى رجل قدم من حياته 40 عاما قضاها في الدراما العربية، بين سوريا ومصر بالتحديد. استمعت إلى البودكاست وأنا أقود سيارتي، ولم أرد لهذه الرحلة أو لهذه الحلقة أن تنتهي. ثلاث ساعات ستطبع في ذاكرتي المعنى الحقيقي للفنان الملتزم، المثقف، الواعي، الذي خاض تجارب حياتية مختلفة، هي التي جعلت من موهبته في التمثيل أكثر عمقا ونضجا.

فكرت كثيرا بعد استماعي للقاء في معنى الممثل الحقيقي وما إذا كان من المهم أن يكون مثقفا، أي قرأ الكثير وشاهد الأكثر. كما قال سليمان في لقائه "القراءة والمشاهدة ليستا بالضرورة أفلاما وكتبا، وإنما تجارب حياتية يخوضها الممثل، فيعرف كيف يطوع الدور ويقدمه بشكل يحترم بداية ونهاية عقل المشاهد، وفي نفس الوقت يأخذه إلى مساحة جديدة لم تقدم سابقاً".

أصبحنا اليوم نعيش في عصر تحكمه أرقام السوشال ميديا، فالنجوم يصنعون لأن متابعاتهم عالية، ولأنهم تمكنوا في يوم من الأيام من صناعة الترند، ولأن الوجه الجميل (أو ذلك الذي يهيأ لنا أنه جميل) بات هو الذي يحكم انتشار الصورة.

اليوم، يتحدثون عن عصر قد يحل الذكاء الاصطناعي مكان الممثل نفسه، لنرى وجوها لا تشبهنا، تقدم قصصا غريبة عنا وعن واقعنا، لربما كله من أجل الكم وليس النوع (هذا السيناريو افتراضي بحت، وقد لا يحدث على الإطلاق).

أفكر أن هذا السيناريو، إن حصل، سيحرمنا الكثير، ولعل الأهم مشاهدة لقاءات لفنانين مثقفين أبدعوا على الشاشة ويبدعون في الحوارات والإجابات، التي أجد فيها قصصا لا تنتهي ولا تتوقف من خلف كواليس الأعمال التي يصورونها، مثل جمال سليمان وأيمن زيدان، الذي تحدث خلال رمضان في حوار مع Big Time Podcast، مع الفارق الكبير بين المحاورين، فجاد غصن بالتأكيد في مكان مختلف.

ثمانية لحظات لن أنساها أبدا في لقاء جمال سليمان، لربما لأنها ذكرتني بأمر ما عايشته، أو قصة لن أنساها، أو فكرة جالت ببالي يوما ما.

أولاً: تحدث جمال سليمان عن الأعمال الدرامية التي تشرف السلطات في بلداننا على إنتاجها لتلميع صورتها، فتخرج بمقاساتها هي، والتي يمكن أن تكون في النهاية مقاسات لها أثر عكسي من ناحية الجودة. وعند الحديث عن الجودة، نحن لا نعني جودة الصورة فحسب، وإنما القصة والحوارات والشخصيات وغيرها.

ثانياً: روى جمال سليمان قصة رحلته إلى لبنان بالحافلة، وأنه كان ينظر للخارج متلهفا لمشاهدة فيروز أو الرحابنة أو غيرهم من رموز لبنان، فنحن لن نذكر سياسيي أي بلد، أو أسماء وزرائها ونوابها، بقدر ما سنذكر أسماء رموزها الفنية والثقافية. الأمر ينطبق على كل دول العالم، فالبلد وهويته تعرّف من خلال هذه الهامات، والأسماء التي صنعت لها تاريخا عريقا من الصعب نسيانه. ذكرتني حكاية جمال سليمان برحلتي الأولى إلى لبنان. حين كنت في السيارة متنقلة بين القرى والمدن المختلفة، لا  أشعر أن أسماءها غريبة عني. كل ذلك لأني سمعت فيروز تتذكرها وتغني عنها.

هذا يقود إلى النقطة الثالثة، التي ذكرها سليمان في حواره، فهويتنا وهوية أبنائنا يجب أن تعرّف بالفن والثقافة. وهذا سؤال لطالما طرحته على نفسي: "إلى متى سنعتبر الثقافة رفاهية للنخبة، ودرجة ثانية من الاحتياجات في حياة الإنسان اليومية؟" الثقافة بنظري لا تتعارض مع حاجة الإنسان إلى الأكل والشرب يوميا. نحن نصنع شكل علاقتنا بهذه الأمور. ولكن قد تكون هناك قوى وأياد قررت أن يكون الاهتمام الأساسي للإنسان العربي عامة هو الأكل والشرب ليلتهي بها عن حاجته إلى جوانب أخرى كالقراءة، والموسيقى، والأدب، والشعر، والثقافة بصورة عامة.

رابعا: من أكثر اللحظات التي أثرت في كثيرا، عندما تحدث جمال سليمان عن زمن كان فيه الممثلون في سوريا يستعيرون الملابس من أجل استخدامها في مشهد تمثيلي، لأنه ببساطة، لم تكن هناك ميزانيات لذلك، ولم يكن هو كإنسان عادي، يمتلك ثمن شراء هذه الملابس. جمال سليمان، مثلا، استعار "بالطو" من الراحل خالد تاجا ليرتديه في أحد الأدوار التي قدمها. هذه القصص هي ليست قصص معاناة فحسب، بل هي قصص تعبر عن الشغف الكبير الذي كان يحمله هذا الجيل من النجوم لتقديم هذه الأدوار. بطبيعة الحال، لم يكن أي منهم مرغما على الاستعارة وارتداء ثياب الآخرين، ولكن الرغبة في العمل وتقديم الدور، وتحملهم المسؤولية هو الذي دفعهم لذلك.

خامسا: في زمن السوشيال ميديا، أصبح تعريف النجاح مشوها. فأنت تفتح على منصة ما لتتعرف إلى ما تقدمه من مسلسلات أو أفلام، فتجد ترتيبا لأفضل المسلسلات هذا اليوم، من غير أن تكون قد فهمت: هل هذا الترتيب حقيقي، أما تم التدخل فيه؟ تفتح منصات التواصل الاجتماعي، فتجد أخبارا عن أكثر فيديو مشاهد في التاريخ، أو أكثر منشور حصل على تفاعل. تستغرب أن هذه الأرقام أصبحت المعيار الحقيقي للنجاح. فلم يعد للنجاح معنى على الأرض، وإنما في الفضاء الافتراضي، الذي، وبنظري، يتبخر سريعا، لأن خبر اليوم، يموت اليوم، ويحل محله فائز جديد برقم جديد.

سادسا: تستوقفني خلال شهر رمضان الكريم المنشورات على منصات التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة من الشهر، والتي يظهر فيها طاقم عمل مسلسل من المسلسلات وهو يشعل الشموع على كعكة احتفاء بانتهاء التصوير. أنظر في ساعتي، فأجد أن رمضان على وشك أن ينتهي. أتساءل: "ماذا كنتم تفعلون باقي العام؟ لعل هذا يؤكد فكرة الجودة السيئة للكثير من الأعمال التي تعرض في الشهر الكريم. في الحوار، ذكر جمال سليمان أنه وطوال عمله في الدراما السورية سابقا، قبل 2009، لم يصله أي نص لمسلسل ينقص حلقة واحدة، وضرب مثلا العمل مع المخرج الراحل حاتم علي، حيث أن مسلسل الثلاثين حلقة كان يصل كاملا، وهذا بالطبع بعد أن يكون قد تم تطوير نسخ مختلفة منه من أجل الوصول إلى النسخة النهائية.

سابعا: تحدث جمال سليمان عن معلميه في المدرسة، في تشبيهه للأعمال التي تعلق في الذاكرة، وتلك التي تمر مرور الكرام فتنساها. تحدث عن معلم اللغة العربية الذي جعله يعشق اللغة، وتحدث عن معلم التاريخ الذي ألهمه ليكون أكثر تعمقا بالتاريخ. هذا يعيدنا لفكرة أن اللغة والثقافة ليست مواد تدرّس في المدرسة فحسب، كما يحدث هذه الأيام، وإنما هي أسلوب حياة، نتحدث بها وعنها في المدرسة وفي البيت وفي الشارع ومع الأصدقاء، فتصبح جزءا منا ومن يومنا. ولعل هذه مأساة إطلاق مبادرات تحسين وتطوير اللغة العربية في المدارس، والتي نسمع عنها منذ عشرات السنين، ولم تتمكن واحدة منها من أن تجد حلا لهذه المعضلة على الإطلاق.

ثامنا: ذكر سليمان أن بعض الأعمال تستبق الزمن، فلا تنجح وقت عرضها، وإنما بعد سنوات، فتحقق نجاحاً باهراً. وضرب مثل فيلم للراحلة فاتن حمامة، الذي لم ينجح عند عرضه، وإنما بعد سنوات طويلة. مثلي المفضل في هذا الإطار هو مسلسل "عايزة أتجوز"، الذي لم يثر إعجابي كثيرا عند عرضه عام 2010. غير أني وبعد أن تابعته قبل وقت قصير من عرض جزئه الثاني، "البحث عن علا"، تيقنت أن هناك الكثير من الجوانب التي نفهمها اليوم، ولم نكن نفهمها سابقاً عند عرضه.

ليس الجميع بقادر على أن يستخدم هذه اللغة البسيطة العميقة، أو أن يسرد قصصاً نسمعها للمرة الأولى وتلامس فينا الجانب الإنساني بعيدا عن النفاق والتزييف، وليس كل فنان قادر على أن يمتعك لمدة ثلاث ساعات كاملة، لا بل وتتمنى أن تطول المقابلة أكثر لأنك بحاجة إلى أن تسمع المزيد، ولأنك تعلم أن قلة قليلة هي القادرة على أن تعيد لك الأمل والتفاؤل بالفن والدراما والتلفزيون.
 

نشر
محتوى إعلاني