رأي.. عندما تسود الأخبار الملفقة وتتراجع القيم
مقال بقلم رنا الصبّاغ، صحافية مخضرمة، مديرة أريج التنفيذية منذ انطلاقها عام 2005. تتلقى أريج تمويلها من الوكالة السويدية للتنمية، برنامج دعم الإعلام الدنماركي. المقال يعبر عن رأي كاتبته ولا يعكس بالضرورة رأي CNN.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- من الصعب تصديق قدرة الدول العربية على تسجيل تفوق استثنائي على الغرب في ابتكار صرعات إبداعية.
لكن حين يتصل الأمر بالأخبار الملفقة، فنحن في المقدمة. ولا يتعلق الأمر بالأخبار الملفقة فحسب، بل يتعدّاها إلى صناعة سياسات ملفقة، دساتير مزورة، قوانين تستبطن الاستبداد، تقاليد مشوهة، تفسيرات دينية تحض على العنف واضطهاد المرأة. وكذلك وضع موازنات وهمية ووظائف شكلية.
في هذه المنطقة التي تمور باللامعقول، نستطيع تبيان "الفبركة" حين نراها. فهي تتداخل مع حمضنا النووي (دي إن إي) وأساسات مجتمعاتنا. على أن القليل منّا – مواطنون ومعشر الصحفيين- مستعدّون لمواجهة هذه الآفة. فالكلفة عالية جدّا والمحاولة تستنزف وقتا وجهدا.
عندما نعلن أن مواقع "التناطح" الاجتماعي تعمل ضد مجتمعاتنا، فنحن لا نجانب الحقيقة. قنوات اتصالنا وشبكات الاتصالات تتعرض للقرصنة والتنصت على يد السلطات السياسية، التي توظّفها ضد المواطنين. وهكذا تغدو الحقيقة صوتا خافتا غير ملهم في عالم سريع التغير، حيث يعلو صوت التطرف والإلغاء. يوما بعد يوم، تتزايد صعوبة اعتماد "فلاتر" لضمان النزاهة والإنصاف في ملايين لمع الأخبار وقصاصاتها.
قبل عدّة سنوات، اثبت مسح أجرته جامعة أكسفورد البريطانية أن معظم ما يتم تداوله في الفضاء الالكتروني يحمل عادة مضامين تافهة ليست ذات صلة. ومع ذلك، يتهافت الناس على هذه المضامين التافهة، خصوصا إذا توافقت مع منظورهم الضيق حيال العالم كما يرونه أو يرغبون في رؤيته.
في قضية القرصنة الروسية لحواسيب أمريكا مثلا، نجد أنفسنا جميعا في ورطة حقيقية في حقبة السياسات ما بعد الحقيقة عندما يصدّق الرئيس الأمريكي كلمة ضابط استخبارات روسي متقاعد على حساب وكالات استخبارات بلاده مليارية التمويل.
اليوم، بتنا جميعا – عربا وأجانب- ضحايا الإعلام الرديء والأخبار الملفقة. على أن الفارق بين العالمين يكمن في أن الغرب يشهد مقاومة أشد للتلفيق مع أن أصداءها لا تصل إلينا إلا نادرا.
الجدالات الدائرة حول الأخبار الملفقة قوّضت الثقة بالإعلام في الولايات المتحدة وثلاث دول أخرى، حسبما كشف مسح أجرته شركة بيانات كنتار على عينة من 8000 شخص في أمريكا، البرازيل، بريطانيا وفرنسا. والأسوأ أن انعكاسات مواقع التواصل الاجتماعي وخبراء الفضاء الرقمي تكون أكثر وقعا على المجتمعات من الإعلام التقليدي المطبوع والبصري.
هل يعني ذلك أن يستسلم الصحفيون المحترفون لهذه الحال؟
قطعا لا. لكن علينا أيضا عدم التقليل من تأثير العقبات التي يضعها الاستبداد الرسمي أمام الصحفيين؛ خصوصا حفنة من الجسورين وصحافيي الاستقصاء الملتزمين بمبادئ الإعلام وقواعده. فمجابهة الأخبار الملفقة وسيل الخدع وتشويه الحقائق، التي تنفثه "كتائب الكترونية" رسمية، أمنية أو تابعة لمراكز قوى ومال هي مهمّة شديدة التعقيد والصعوبة.
هذه القضايا ستكون موضع نقاش وتفاكر بين 450 إعلاميا عربيا وخبيرا أجنبيا حين يلتقون على شاطئ البحر الميت هذا الأسبوع في إطار ملتقى أريج العاشر تحت عنوان: "صحافة الاستقصاء في مواجهة الأخبار الملفقة".
تنظّم هذا الملتقى السنوي الفريد على مستوى العالم العربي شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)، وهي عضو فعّال في شبكة الاستقصاء الدولية، تعنى بترسيخ ثقاقة هذا الضرب من الإعلام و"صحافة المساءلة " في غرف الأخبار العربية وفي صفوف الصحفيين المستقلين من خلال التدريب النوعي وتمويل التحقيقات.
وسيتحدث الأريجيون – وفق التوصيف الذي يحلو لهم – عن روتين العمل تحت إشراف رؤساء تحرير بات بعضهم أبواقا بيد أسيادهم في إطار مقايضة الاستمرارية مقابل طمس الحقائق على حساب تغطية الوقائع بأمانة وإنصاف من أجل المنفعة العامة.
حتى القضايا البعيدة عن تعقيدات السياسة؛ مثل الصحة، التربية والتعليم وشؤون المستهلك أضحت مثيرة للمشاكل تحت وطأة عصا السلطة وغوغائية شارع مستقطب.
خذ مثلا إحجام رئيس تحرير سوداني عن نشر أسماء المتسببين الرئيسيين في تلوث بيئة ناجم عن بناء عشرات مزارع الدجاج بين الأحياء السكنية. والسبب أن أحد أصحاب المزارع يملك الصحيفة المعنية.
كذلك رفضت صحيفة عربية لندنية يملكها مسؤولون سعوديون بارزون نشر تحقيق حول تعمق الكارثة الإنسانية في اليمن بفعل الحرب، حتى لا ينظر إليها أنها تسعى لإحراج التحالف الدولي بقيادة السعودية ضد الحوثيين هناك.
ويتعايش محررو أريج في مقرّها بعمّان مع قصص محزنة من صحفيين خائفين يترددون في إجراء مقابلة "المواجهة" النهائية مع المتسببين في الإساءات، وهي شرط أساسي لاستكمال التحقيقات الموكلة إليهم لتحقيق مبدأ الإنصاف قبل النشر/ البث. يقلق صحفيون حيال احتمالات تعرضهم للأذى الجسدي أو لضغوط سياسية. لذلك يتدخل محررو أريج في عمّان لإجراء مقابلات "المساءلة" خطيا من المركز، بالإنابة حتى عن صحفيين – حتى في تونس، التي ينظر إليها بأنها مهد الثورات وملهمتها عام 2011.
في اليمن، لم تعد هناك حرية إعلام وسط استقطاب عسكري مرعب. ويعلم الأريجيون أنهم أمام خيارين: إما أن تعمل مع الوسائط التابعة للحكومة أو تلك تحت سيطرة الحوثيين والرئيس السابق علي عبد الله صالح؟
الحال ليست أفضل كثيرا في مصر. إذ تحول هذا البلد إلى أكبر سجن للصحفيين خلال السنوات الأربع الماضية. يشارك صحفيين في توقيع "استمارات دعم" لحث الرئيس عبد الفتاح السيسي على الترشح لولاية ثانية.
في الأردن، تتشابه تقريبا "مانشيتات" الصحف والصور المصاحبة لها، بفضل الرقابة المتوارية تحت "قفّازات بيضاء". وصدر مرسوم رسمي بتعيين رئيس مجلس إدارة فضائية خدمة عامة قيد التأسيس الآن، والأولى من نوعها، تعلن بأنها ستبث أخبار أكثر انفتاحا وإتزانا.
في البحرين، السعودية، العراق وبلدان أخرى توظف القوانين المعتمدة أصلا لمواجهة الجرائم الرقمية لتكميم أفواه الصحفيين.
ومع أن حال الإعلام في كل دولة كان بائسا في معظم الأحيان، أحالت أزمة قطر- السعودية الإعلام العربي الإقليمي إلى ساحات معارك. فلن يدعّي أحد بعد الآن أن قنوات عابرة للحدود لا تمثّل أي شيء أكثر من وجهات نظر أحادية أو "بروباغاندا" رسمية.
على خلفية هذه الصورة القاتمة، سينضم إلى الصحفيين العرب على شاطىء البحر الميت عشرات الخبراء الأجانب في حقل الاستقصاء والإعلام الرقمي على أمل تبادل الأفكار والأدوات للتصدّ سيف الرقابة وتشويه الحقائق.
سيشهد ملتقى أريج العاشر 45 ورشة تدريب وتشبيك حول مواضيع شتّى؛ في مقدمتها حماية الملفات الرقمية وتشفيرها، السرد الرقمي، تحصين المصادر المستضعفة وحماية الصحفيين من العنف الجسدي.
نتوقع الكثير من الصحفيين العرب. وهم يحتاجون دعمكم ويستحقونه.