عبدالخالق عبدالله يكتب لـCNN: التحول الديمقراطي العربي معاق إلى أجل غير مسمى
هذا المقال بقلم د. عبدالخالق عبدالله، أستاذ العلوم السياسية من الإمارات، والآراء الواردة أدناه، تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة رأي شبكة CNN.
كان هذا عنوان جلسة من جلسات المنتدى الفكري لموسم اصيلة الثقافي 2018، وكان السؤال الذي ارتبط بهذا العنوان: ما الذي يعيق التحول الديمقراطي في الوطن العربي؟ وما الذي أعاقه منذ اندلاع الربيع العربي قبل 7 سنوات وما الذي أعاق مسار الديمقراطية في المنطقة العربية خلال الـ100 سنة الأخيرة؟
فالشاهد أن جميع المناطق في العالم شهدت تحولات ديمقراطية خلال الـ30 سنة الأخيرة ما عدا المنطقة العربية. أوروبا الشرقية تخلصت من الأنظمة الشمولية وأنجزت مهمة التحول الديمقراطي بنجاح مشهود، وكذلك فعلت معظم الدول في أمريكا اللاتينية التي أنهت عقود من حكم العسكر البائس، وانضمت معظم دول قارة آسيا الى قائمة الدول الديمقراطية، وحتى أفريقيا أنهت عصر العسكر والاستبداد وأصبحت معظم دولها أكثر ديمقراطية اليوم مما كانت عليه خلال القرن العشرين.
جميع هذه الدول التي كانت في يوم من الأيام تعاني من الاستبداد وحكم الفرد الواحد والحزب الواحد، حققت الحد الأدنى من التحول الديمقراطي المستقر، المنطقة العربية هي الوحيدة التي لم تنجز هذه المهمة، حيث تلوح الديمقراطية في الأفق كالسراب، وحيث التحول الديمقراطي يعاني من عطل مزمن ويحبو ببطء ويتقدم شبرا ليتراجع أمتارا دون أي أمل بخروج مبكر من نفق الإحباط الديمقراطي.
لا عجب أنه بحلول عام 2018 لم تصنف دولة عربية واحدة كدولة ديمقراطية في التقرير السنوي لمجلة الايكونومست عن الدول المصنفة كدول ديمقراطية في العالم. فوفق هذا التقرير السنوي الأخير هناك 97 دولة ديمقراطية في العالم لا توجد بينها دولة عربية واحدة. جاءت تونس في الترتيب الأول عربيا لكنها احتلت الترتيب 69 عالميا. حتى تونس لم تتمكن من دخول مجموعة دول "الديمقراطيات الكاملة"، حيث جاء تصنفيها ضمن قائمة "الديمقراطيات الهشة". أما بقية الدول العربية فتأتي ضمن فئة الأنظمة الهجينة او السلطوية. مما يعني ان 350 مليون عربي يعيشون حاليا في ظل أنظمة غير ديمقراطية، لا تلتزم بالحد الأدنى من معايير الديمقراطية كإجراء انتخابات حرة ونزيهة، ووجود تعددية حزبية، وتداول دوري وسلس للسلطة، وقضاء مستقل، وحرية صحافة ومجتمع مدني نشط، علاوة على انتشار ثقافة احترام الاختلاف وقبول الآخر والإيمان بالتعددية.
المؤكد أنه لم يبرز خلال 7 سنوات منذ اندلاع الربيع العربي وحتى خلال الـ100 سنة الأخيرة من التاريخ العربي المعاصر نموذجا ديمقراطيا عربيا مستقراً ومزدهراً واحداً يعتد به ويكون ملهماً لبقية دول المنطقة ويتم تعميمه عربيا. لذلك تبدو المنطقة العربية قاحلة ديمقراطيا دون غيرها من المناطق، وتعاني من نقص شنيع في الحريات كما ورد في تقرير أممي سابق.
بدون نموذج ديمقراطي عربي مستقر ومزدهر وملهم لا يمكن ان تستوطن الديمقراطية في الأرض العربية. لقد أصبح التحول الديمقراطي العصي أكثر استعصاء بعد اندلاع ثورات الربيع العربي التي ساهمت بدورها بتأجيل التحول الديمقراطي بدلا من تعجيله. كل هذا دفع منتدى أصيلة في دروته الاربعين وبحضور نخبة من الأكاديميين والمفكرين والإعلاميين العرب لمناقشة المسالة الديمقراطية وطرح سؤال: ما الذي أعاق في الماضي ويعيق في الحاضر هذا التحول الديمقراطي في الوطن العربي؟ خلاصة الإجابات في ندوة منتدى أصيلة 2018 كانت على النحو الآتي:
إن أحد أبرز العوامل التي تعيق التحول الديمقراطي في المنطقة العربية هو أن الاهتمام العالمي بالحريات وحقوق الانسان والديمقراطية في أدنى مستوياته خلال الـ30 سنة الماضية. فالدافع الدولي نحو الديمقراطية منعدم حاليا، بعكس ما كان عليه مع بروز الموجة الديمقراطية الثالثة وانتصار النموذج الليبرالي الحر. العالم منشغل عن الديمقراطية ويعيش في مزاج الرجل القوي.
فامريكا تبدو مختطفة من الرجل القوي ترامب الذي لا يطيق الحديث عن الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات، ولوكان الود وده لحوّل أمريكا الى نظام وراثي. وأوروبا تعصف بها موجة عاتية من أحزاب يمينية عنصرية معادية للهجرة والمهاجرين والأجانب، وهي اليوم أقل تسامحا مما كانت عليه خلال القرن العشرين. ولن يخدم صعود النموذج الصيني الذي يتسم بالحزب الواحد والزعيم الواحد التحول الديمقراطي عالميا بل سيؤثر عليه سلبا.
باختصار الحواضر الديمقراطية العالمية لم تعد ديمقراطية بما فيه الكفاية، وحتما لم تعد متحمسة للحريات بما فيه الكفاية. والحاضنة الدولية التي برزت في التسعينات اختفت بنفس سرعة بروزها. كذلك انطفأ النموذج الديمقراطي الإقليمي الوحيد الذي كان يعتد به في تركيا. فقد أصبح النموذج التركي باهتا ولم يعد ملهما كما كان قبل عشر سنوات. النموذج الديمقراطي التركي المستقر والمزدهر صعد سريعا وهبط سريعا بعد بروز الرجل القوي في تركيا الذي يؤسس حاليا وبعد أن أصبح رئيسا بصلاحيات سلطانية لنموذج رئاسي سلطوي لا يختلف كثيراً عن النموذج الإيراني.
أما النموذج الإيراني، فرغم صراع تياراته، فهو مقيد بقيود المرشد الذي يتمتع بصلاحيات ربانية مطلقة. لم يكن النوذج الإيراني في أي وقت من الأوقات نموذجا ديمقراطيا ملهما بل تأسس واستمر كنموذج كهنوتي طائفي توسعي لا يجد صدى سوى لدى المتأيرنيين العرب. أما النموذج الإسرائيلي الاستيطاني والعنصري الذي اكد نجاحه في الداخل الإسرائيلي ويثير اعجاب العالم الغربي فلم يكن في أي وقت من الأوقات نموذجا ديمقراطيا ملهما للعرب.
لكن على أهمية هذه العوامل الإقليمية والعالمية المحبطة هناك تحولات وتطورات المنطقة العربية وفي مقدمتها ثورات الربيع العربي التي وصفها عمرو موسى الأمين العام الأسبق للجامعة العربية في إحدى جلسات منتدى أصيلة 2018 "بيوم القيامة". كان الربيع العربي واعداً في بدايته، مبشرا بفجر عربي جديد يحمل رايته الشباب العربي الرافض لعقود من الاستبداد واالفساد.
لكن أقل ما يقال عن هذا الرييع العربي أنه ساهم في تأجيل وليس تعجيل التحول الديمقراطي في الوطن العربي. جاءت نتائج الربيع العربي كارثية ومأساوية على الصعيدين الإنساني والمادي، وحتما خدمت أعداء الديمقراطية اكثر مما تخدم دعاة الديمقراطية.
خلاصة القول ان التحول الديمقراطي العربي معاق، ولم تعد الديمقراطية أولوية، أما الديمقراطيون العرب فهم أيتام هذه الأيام، بعد أن أصبحت العوامل الكابحة والمعطلة للتحول الديمقراطي أقوى بكثير من العوامل الدافعة للديمقراطية. وعلى الرغم من النجاح النسبي للتحول الديمقراطي في تونس الا أنه لا يمكن الرهان على تونس كنموذج ديمقراطي عربي مستقر ومزدهر ملهم، وحتما لا يمكن النظر الى المغرب أو العراق أو لبنان أو الكويت كنماذج ديمقراطية عربية يعتد بها.
لقد فقدت الديمقراطية بريقها وجاذبيتها ولم تعد حسناء في عز ربيعها، بل هي مترهلة وتعاني من شيخوخة مبكرة ومن أزمات حادة في عقر دارها. لذلك كما قيل في نقاشات منتدى اصيلة 2018، يظل التحول الديمقراطي العربي معاقا ومشوها ومؤجلا الى أجل غير مسمى.