بشار جرار يكتب لـCNN عن "ازدواجية المعايير وعبثية الطرح" لدى رافضي صفقة القرن
هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
لغايات النقاش، نذهب مع القائلين برفض صفقة القرن حتى قبل نشر تفاصيلها ونضع جملة من التساؤلات أمام الفريق الآخر وهو الأعلى صوتا، أولئك الذين لم يكتفوا برفض الصفقة بل بتكفير وتخوين المشاركين في ورشة المنامة.
التساؤل الأول والأكبر هو: ما البديل؟ فزهاء قرن من السعي غير المشكور بين خياري الحرب والسلام، تراجعت عمليا أدوات الرفض من خوض الحرب المفتوحة إلى الاشتباكات عبر الوكلاء. بعد هزائم الجيوش النظامية وتطويع مفردات اللغة العربية من هزيمة إلى نكسة، أبدع فصحاء العرب والناطقون بلغة "الضاد" بتحويل شعارات الثورة إلى مقاومة فممانعة ودخل وكلاء السلاح وتجار الحروب في أتون معارك لا تنتهي أسقطت على نحو مدوّي القناع عن مقولات بوصلة المعركة ووحدة البنادق.
ولغايات النقاش، أتساءل عن مبررات استمرار "المنظمة والسلطة" سواء في رام الله أو غزة، ما دام العالم موحدا في رفض الإرهاب والعنف الذي كان البعض يسوغه – حقا أو باطلا- بما يسمى تزيينا للباطل بالعنف الثوري أو الجهاد الإسلامي. فدهس المارة وطعن المتسوقين وتفجير الأسواق ومراكز التعليم والعبادة والخدمات العامة عمل إجرامي إرهابي لا يستطيع أحد تبريره في عالم اليوم. لا بل وأزعم أن الضرر الناجم عن الصاروخ -خاب أم أصاب- تعدى بمراحل الضرر الناجم عن الرصاصة التي لم يسلم منها لا الأخ ولا الجار ولا الرفيق.
وسعيا للوفاق على نية التوفيق، يطرح العقلاء في نظري الخيار الآخر وهو التفاوض إقرارا بلغة المنطق في عالم تديره المصالح لا مكارم الأخلاق. فحتى القيم النبيلة باتت مسألة فيها نظر. وعلى سياسيينا وصحافيينا وقادة الرأي العام التزام الصدق في تشخيص الحال كما هو لا كما نتمنى أن يكون. وعليه، فإن على رافضي التفاوض بالمطلق أن يطرحوا البديل على كل ما تسرب حتى الآن عن صفقة القرن وورشة البحرين.
مثالا لا حصرا، لنتوقف عند جملة من التساؤلات التي طرحت في صميم حق تقرير المصير: لا على شاكلة قمة الرباط العربية عام ١٩٧٤ وإنما في المنطوق القانوني والتجسيد السياسي لحق الشعوب في تقرير المصير. هل احترمنا كأمة وكشعوب وكحكومات وكبرلمانات حقوق شعوب منطقتنا الأصيلة كالقبط والسريان والكرد والأمازيغ؟ وحتى ينصت العالم لتصريحاتنا وخطاباتنا وخطبنا وعظاتنا وبرامج "التوك شو" على منصاتنا الفضائية والاجتماعية عندما نبكي القدس ومقدساتها أو "نتباكى" عليها، هل احترمنا عقائد ما "فتح" أجدادنا من "بلاد"؟ هل رحمنا "اختلاف أمتنا"؟ هل صانت دساتيرنا الحقوق الدينية للناس كافة؟
قد يقول قائل -وتلك فرية ما عادت تنطلي على أحد- إن صفقة القرن وحدت الرافضين وأحرجت المشاركين في ورشة البحرين. فأقول، وما قولكم في تكبيرات العيد بالأقصى والحرم الإبراهيمي أثناء أداء صلاة التراويح في مشهد نال من الوحدة الإسلامية والوطنية؟ فلسطينيا، بماذا يختلف حزب التحرير "الإسلامي" عن داعش؟
ختاما وهذا رأي استدل به بالقياس على ما مضى من فشل دبلوماسي وسياسي متكرر لمعظم اللاحقين بركب المفاوضات بعد تدني سقوفها: إن الممعن في الرفض دون توفير البديل متورط جهلا أو عمدا -لا بإبقاء الوضع على ما هو عليه- بل بتراجعه وبالتالي النيل من فرص تفاوض من سيسعى إلى اللحاق بما أضاعه السلف من فرص.
صادم إلى حد الضحك والبكاء معا تعليق رصدته على منصات التواصل الاجتماعي تفاخر فيه سياسي مخضرم بمقولة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عندما عّبر عن عدم اكتراثه ببناء المستوطنات على اعتبار أنه سيتسلم الضفة جاهزة بالمرافق السكنية والخدمية وشبكات الطرق والبنية التحتية!
إن الانقسام والتشظي الفلسطيني والعربي وما خلفته سنوات الربيع العربي الدامية، لا سبيل لنكران حقائقه المخزية. انظروا في نسب تعاطي المخدرات والطلاق المبكر والتزويج القسري "زواج القصّر" والعنف المنزلي وحوادث الذبح على الهوية، ودعونا نتساءل معا بماذا يضير شعوبنا ومجتمعاتنا تحسين الظروف المعيشية للمنطقة برمتها؟
لرافضي ورشة المنامة باسم التحشيد الديني أتساءل أين زكاتكم وأخماسكم وأعشاركم لأهل القدس وفلسطين؟ ولمقاطعي صفقة القرن وتابوهات التوطين أتساءل كيف لي كعربي أن أصبح أوروبيا وأميركيا وكنديا في بضع سنين مكتمل الحقوق والواجبات وآبائي وأجدادي بحاجة إلى كفيل وتأشيرة واحتجاز جواز السفر للعمل والإقامة بل وحتى للمشاركة في ندوة حوارية من مكان ما يبشر العالم بقيم السلام والديمقراطية ومحاربة الإرهاب والعنصرية! أي مصداقية لمن يريدون تشييد دولة وما زالوا يجترون الفشل في إدارة حوار حول أسس مقوماتها؟ من سيثق بتحويل تشظي الفصائل وتناحرها اللامتناهي إلى جيش وطني؟ وأي عقيدة قتالية ستكون لذلك الجيش؟ بمعنى من هو العدو: إسرائيل أم دول الطوق؟! أي مصداقية للداعي إلى حق العودة والتعويض أو أحدهما وهناك عرب يهود هاجروا أو هجروا جاهر من تبقى على قيد الحياة منهم بالرغبة بممارسة الحق ذاته؟ أي مصداقية لناقدي الدعوة إلى حل الأونروا وقد أغلقت حدود أغنياء العرب أمام اللاجئين السوريين ومن قبل العراقيين والفلسطينيين فيما فتحت أوروبا والأمريكيتان أبوابهما للعمل والإقامة والتجنيس؟ شكرا لصفقة القرن وما علقته من أجراس.