بشار جرار يكتب عن "تسارع خطوات التطبيع" بين إسرائيل ودول عربية: المشكلة في الطباع لا التطبيع
هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
الناظر في بدايات الصراع العربي الإسرائيلي وما آلت إليه الأمور بعد زهاء قرن يعلم أن الوضع الطبيعي كان قبل قيام دولة إسرائيل علاقات إنسانية طبيعية بين اليهود والعرب خاصة في دول ذات دلالة نوعية من النواحي الدينية والحضارية كمصر والعراق والمغرب. اليهودي في تلك الدول مواطن يفترض أن يكون مكتمل الحقوق والواجبات كأخيه المسلم والمسيحي.
يزخر التراث الوطني في تلك الدول بكثير من الأدلة على تميز العلاقات بالود لا فقط العيش أو التعايش المشترك. وقد أحسن الإذاعة والتلفزيون في إسرائيل قبل عهد الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي بتوظيف ذلك التراث الإنساني المشترك للدعوة إلى إحياء العلاقات على الأقل في المجالات الأهلية غير الرسمية بين الجانبين.
في المقابل، قام قادة الصراع من الجانبين خاصة من اختار لغة التصعيد والتطرف بتأجيج المشاعر وتأليبها وتسميم الأجواء العامة لدرجة باتت في عالم اليوم مستهجنة إن لم تكن مدانة. فما عاد حدثا ذا أثر محمود في نظر الرأي العام العالمي أن يقوم رياضي مثلا بالانسحاب من بطولة عالمية أو إقليمية في حال دخول مشارك من الطرف الآخر حلبة المنافسة. ما عادت المقاطعة مجدية أيضا في عالم تهاوت فيه الجدر وتلاشت فيه الحدود أمام العلوم والتقنية والتجارة والزراعة والمنتجين الثقافي والإعلامي. أذكر تماما عرض دعايات تلفزيونية لتفادي عرض أغنية إسرائيل في مسابقة مهرجان الأغاني الأوروبية التي باتت فيه الآن الرسائل الإعلامية والدعائية الإسرائيلية مدار تداول عبر منصات التواصل الاجتماعي ومن ضمنها موقع "إسرائيل تتكلم العربية" الذي سجل حضورا لافتا خارج الأراضي الفلسطينية والإسرائيلية.
لن أخوض في تفنيد جدوى ما يعرف بسلاح المقاطعة ولا في تعداد فوائد الاشتباك الكامل ثقافيا واقتصاديا وسياسيا بما يعرف بالتطبيع ولكني أذكر مستشفى عين كارم-هداسا في القدس الذي نجح الفلسطينيون والإسرائيليون أطباء ومرضى في تنحية السياسة جانبا والعمل معا في مواجهة الجراثيم والميكروبات والفيروسات والسرطانات. الجو الصحي النظيف لا يخيف أحدا ما دام في النور. فالمشكلة لم تكن أبدا في المقاطعة أو في التطبيع، فكل منهما أدوات إما لإدارة الصراع أو إحلال السلام وتحقيق التنمية وما ينفع الناس عامة، الناس كافة في ميادين الصحة والزراعة والتعليم والتجارة.
أذكر قبل نحو ثلاثة عقود في بريطانيا مواقف الطلبة العرب والمسلمين من المنتجات الإسرائيلية سواء من إنتاج الدولة أو المستوطنات حيث "ضبط بالجرم المشهود" عدد من غلاة الداعين إلى المقاطعة بشراء بعض تلك المنتجات لدواع تتعلق بالجودة أو الكلفة.
وكلما أكرمني الله بزيارة الأراضي المقدسة وبخاصة القدس الحبيبة شهدت "عيال الله" من يهود ومسيحيين ومسلمين يرتادون الأسواق التراثية في القدس العتيقة دون أي تمييز في العرض والطلب، فالسوق سوق اللهم إلا التسعير: صحيح أنه بالشيكل الإسرائيلي لكن التجار من الأديان الثلاثة يعرضون على السائح الدفع بالدولار أو اليورو أو الدينار الأردني. المشكلة لم تكن يوما في التطبيع المشكلة في الطباع التي تصنعها الظروف الموضوعية وتغيرها أيضاً.