رأي.. عبدالخالق عبدالله وفاطمة علي يكتبان: الإيثار الإماراتي في زمن كورونا
هذا المقال بقلم الدكتور عبدالخالق عبدالله، أستاذ العلوم السياسية من الامارات، وفاطمة علي، باحثة في مجال "القوة الناعمة" من الإمارات، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتبين ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
في مواجهتها المستمرة مع واحدة من أخطر الأوبئة التي مرت على البشرية، لفتت مبادرات الإمارات الإنسانية الانتباه بزخمها وحجمها ونوعها وتنوعها وانطلاقها من قناعة أن التعاون العالمي ضرورة من ضرورات القضاء التام على وباء كورونا على الصعيد العالمي. ففي حين لجأت معظم الدول خاصة الغنية، إلى التنافس أخذت الإمارات مبدأ التضامن والتعاون الدولي لمواجهة خطر كورونا. هذا الموقف الإنساني كسب الإمارات الكثير من الاحترام والتقدير.
جاء أفضل تعبير عن ذلك في كلمة الرئيس الصربي ألكسندر فوشيك الذي شكر الإمارات على إرسال 12 طنا من المساعدات الطبية العاجلة إلى صربيا قائلاً: "كان الشعب الصربي ينتظر أن يأتيه العون من الاتحاد الأوروبي، لكن دول أوروبا انشغلت بحالها وأدارت ظهرها لنا وجاء العون العاجل من دولة صديقة لنا هي الإمارات". كانت تلك واحدة من بين عشرات رسائل الشكر التي قيلت بحق الإمارات خلال انشغال الجميع باحتواء هذا الفيروس العابر للقارات.
انتشر كورونا سريعا وضرب العالم في مأمن وبأقل قدر من الاستعداد المسبق. وجاءت ردود غالبية دوله مرتبكة لسان حالها نفسي نفسي وحالي حالي، رغم أن ظروف كورونا الاستثنائية كانت تتطلب التعاون الدولي أكثر من أي وقت آخر. قلة قليلة تعاملت مع كورونا كتحد عالمي يستوجب عملاً جماعياً وليس فردياً وأنانياً. ومن بين هذه القلة برزت الإمارات التي أعلنت انها لا تتحمل مسؤولية صحة المواطنين والمقيمين على أرضها فحسب، بل تحمل نفسها أيضا مسؤولية صحة وسلامة الملايين خارج الإمارات.
لذلك برزت الإمارات كنموذج للإيثار الذي يعني من بين أمور عديدة أن تقدم الغير على نفسك، وتفضيل الخير للآخرين على الخير الشخصي وأن تعطي أولوية لصحة وسلامة وسعادة البعيد. وأرقى أشكال الإيثار التضحية بالغالي والثمين في زمن العسر والكوارث. والإيثار أعظم أجراً من الصدقة. ويقال إن الإيثار صفة فطرية من صفات الأمومة. طبقت الإمارات الإيثار فعلاً وليس ادعاء. ففي الوقت الذي تهافتت دول العالم لاحتكار المعدات والأدوية وتنافست لاقتناء الملابس الطبية الضرورية، كانت الإمارات كالأم الرحوم تقدم كل ذلك مجاناً لمن طلب ومن لم يطلب.
كم كان من السهل على الإمارات أن تتبرع بـ100 مليون دولار لمنظمة الصحة العالمية كما فعلت دول عديدة، لكن ذلك لم يكن منسجماً مع إحساسها بالأخوة الإنسانية. لقد ذهبت الإمارات مذهباً آخر بفتح مخزونها من المستلزمات الصحية التي اختفت فجأة من الأسواق وأصبح سعرها أغلى من سعر الذهب. هذا هو الإيثار بعينه وفي أحسن تجلياته. وبمثل هذا العطاء النوعي اتسم سلوك الإمارات وأصبحت أبوظبي عاصمة الكرم الطائي العالمي في زمن كورونا.
شاركت الإمارات العالم في ما لديها من مخزون طبي ثمين تعض عليه الدول بالنواذج. وفي أقل من شهرين سجلت رقماً عالمياً قياساً في توزيع أدوية ومعدات ومواد وأجهزة وكمامات وقفازات ومعقمات وألبسة طبية لتأتي في الترتيب العالمي الثاني بعد الصين التي صدرت فيروس كورونا للعالم في المقام الأول. شملت مساعدات الإمارات 29 دولة شرقية وغربية، عربية وغير عربية، مسلمة ومسيحية، آسيوية وأفريقية، لاتينية وأوروبية. وبلغ مجموع الإمدادات الطبية 315 طناً استفاد منها 314 ألفا من الكوادر الطبية و30 مليون شخص في إيران وصربيا وكرواتيا وأفغانستان والصين والبرازيل وماليزيا وأوكرانيا وقبرص وموريتانيا وكولومبيا وبلغاريا والصومال وأثيوبيا والسودان وجنوب أفريقيا وباكستان وأوزبكستان وإندونيسيا وأرمينيا والقائمة طويلة ولا تتوقف.
كانت طائرات الإمارات المدنية والعسكرية، تجوب الفضاء وبمعدل طائرة واحدة كل أسبوع محملة بمعدات طبية لكل محتاج. لكن أكثر المساعدات إثارة للجدل تلك التي أرسلت إلى إيران على متن 3 طائرات محملة بـ30 طناً من الإمدادات والمعدات الطبية لمساعدة 15 ألفا من العاملين في قطاعها الصحي. قدمت الإمارات هذه المساعدة من منطلق إنساني بحت بدون قيود وشروط وبعيداً عن الخلاف السياسي مع طهران، بيد أن البعض قرأ هذه المساعدات قراءة سياسية واعتقد أنها بادرة تصالح مع الجار الإيراني الصعب ورغبة لتخفيف التوتر في المنطقة.
مهما كانت دوافع إرسال المعونات إلى إيران، ففعل الإيثار الإماراتي في زمن كورونا، منسجم مع نهج أسسه الأب المؤسس زايد رحمه الله، وأصبح مسلمة من مسلمات سلوكها الخارجي، في كل الأزمان خاصة عندما تتخلى دول عظمى وقوى كبرى عن دورها القيادي. كان العالم يتيماً في زمن كورونا وبلا قيادة. الإمارات ليست في وارد قيادة العالم، لكنها حتماً برزت كنموذج للقيادة في لحظة مأساوية واستثنائية.
جاءت حصيلة هذ الإيثار مجدية على أكثر من مستوى. فعلى الصعيد الوطني عززت دبلوماسية المساعدات الإنسانية الانتماء الوطني والتلاحم المجتمعي وعمق الولاء لدى المواطن والمقيم. أما على الصعيد الدولي، فقد وجدت الإمارات نفسها على اتصال وتواصل يومي مع زعماء العالم وعواصمه الكبرى على مدار الساعة تنسق معها جهود الإغاثة، الأمر الذي أكسبها المزيد من الأصدقاء وعزز سمعتها كدولة من دول العطاء. فالإمارات هي الدولة رقم 15 في قائمة أكثر الدول سخاء لسنة 2019، وتحتل الترتيب الثاني عالميا بعد السويد في مؤشر نسبة المعونات إلى إجمالي الناتج الوطني حيث بلغت 1,09% سابقة النرويج 1,05% ولكسمبورغ 0,93% والدنمارك 0,85% وهولندا 0,76%.
ومن المتوقع أيضا أن يعزز هذا الكرم الطائي مكانة الإمارات كقوة ناعمة حيث تحتل حالياً الترتيب 18 عالميا في هذا المؤشر الحيوي، وقيامها بدور قيادي في زمن كورونا سيدفع بها إلى ترتيب عالمي جديد في مؤشر القوى الناعمة الذي يقيس تأثير الدول في الرأي العام العالمي عبر مؤشر السمعة والأدوار الإنسانية القيادية. نموذج الإمارات التنموي والحضاري الجاذب سيصبح أكثر جاذبية وسيضاعف من وزنها الاستراتيجي حيث احتلت المرتبة 11 في مؤشر التأثير الاستراتيجي العالمي لسنة 2020.
كذلك سيرسخ هذا النشاط الإنساني موقع الإمارات كقوة من القوى المتوسطة الصاعدة الذي بلغ عددها 34 دولة عام 2018 وعرفت بتأثيرها في محيطها الجيوسياسي وحضورها الأممي واتساع شبكة علاقاتها الثنائية والجماعية.
مهما كان الحصاد الوطني والعالمي، الآني والاستراتيجي، فقد سجلت الإمارات للتاريخ أنها دولة تتحمل مسؤولية نفسها بقدر ما تحمل مسؤولية غيرها، وان الإيثار ثابت من ثوابتها والتضامن العالمي على رأس أولوياتها. لذلك إن كانت هناك قائمة بأكبر الرابحين وأكبر الخاسرين، فستخرج الإمارات منتصرة وستأتي في مقدمة الرابحين في زمن كورونا.