رأي: بشار جرار يكتب عن "انقلاب" السودان.. من انقلب على من؟

نشر
5 دقائق قراءة

هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

محتوى إعلاني

ما عاد خبرًا صادمًا إشهار بعض العناصر الكامنة من الانقلابيين انقلابهم على الوضع الراهن حتى وإن كانوا طرفا فيه، طرفا قد تكون قد أتت به الصدفة أو المصلحة بمقتضى اكتمال الصورة لغايات التسويق لدى "العالم الحر". تلك قصة عهدناها في كثير من الساحات الشرق أوسطية.

محتوى إعلاني

وكم حملت انقلابات “البلاغ رقم واحد” من عبارات "صفرية" باتت ممجوجة بعد ثبوت بطلان ذرائعها وبهتان وعودها، هذا يتحدث عن "إنقاذ" وآخر عن "خلاص" وما بينهما من انقلابات "التصحيح" من الأخطاء والتطهير من الخطايا!

وإن كان من سمات مشتركة بين انقلابات القرن العشرين، فلا شك أن صبغتها الأقوى هي القوة البوليسية الفولاذية الخشنة بقفازين حريريين واحد يخطب ود الخارج معتمدًا على دعم سفارة على الأقل من بين الخمسة الكبار، وآخر يدغدغ مشاعر الشارع، تارة بوعود التحرير والنصر أو حمايته من عدو خارجي، وتارة من أعداء حقيقيين ينهشون قوت الناس وصحتهم وحقوقهم وأحلامهم.

تنافست "بلاد العرب أوطاني" يتقدمهم العسكر على الانقلاب يمينا ويسارا، السودان وسوريا والعراق في الصدارة، أكثرها دموية على الإطلاق كان انقلاب يوليو/تموز الدامي في العراق سنة 1958. في تلك السنة - ولم يكد يمر عامان على استقلال السودان - شهدت الجمهورية المستقلة عن المملكة المصرية والعرش البريطاني ثاني انقلاباتها الأحد عشر حتى ساعة كتابة هذه السطور، وقد تكللت معظمها بالنجاح، رغم فيض من برقيات التأييد والإدانة إقليميًا وعالميًا.

لعل ما يميز انقلابات هذا المشرق المُبتلى بمعضلة الحكم، ثقافة وممارسة، في القرن الواحد والعشرين قياسًا بالقرن المنصرم، هما عنصران: ما عاد من يتهم بالانقلاب عسكريًا، فالرئيس التونسي مدني وقامة قانونية مرموقة مشهود لها بالوطنية والنزاهة. وما عاد الرفض الدولي للانقلاب جامدًا ومطلقًا على ضوء ثبوت الدعم الشعبي لمن تصدوا لمسؤولية إنقاذ البلاد ممن انقلبوا بداية على ثوابت المجتمع وأمنه وسلامه كما حصل في استيلاء جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية وأخواتها على السلطة في مصر وليبيا.

"انقلاب" عبدالفتاح البرهان الذي يرى كثيرون أنه مدعوم من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والحليفين الأقرب لمصر في الخليج، السعودية والإمارات، جاء بعد "عامين من الفشل المتراكم"، وفقا لموسكو. "انقلاب" أتى بعد سويعات من محادثات أجراها المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي السفير المخضرم جيفري فيلتمان مع قادة المرحلة الانتقالية في السودان بشقيها المدني والعسكري.

واشنطن ما زالت تعبر عن "القلق البالغ" وتجري اتصالات بقيادة وزير الخارجية أنتوني بلينكن، مع الاتحاد الإفريقي الذي جمد عضوية السودان لممارسة ضغوط على "الانقلابيين" حتى يتم استئناف المرحلة الانتقالية وصولا إلى حكم مدني ديموقراطي راشد. وهنا تكمن المعضلة. عامان مرّا، ولم تف حكومة عبدالله حمدوك بستة تعهدات من بينها تشكيل حكومة مستقلة لا تقوم على المحاصصة الحزبية والمناطقية والقبائلية. وكما حصل في تونس، لم تتم محاسبة الفاسدين، ودبّ التخبط والاعتباطية في إدارة شؤون البلاد وتفاقم سوء الأحوال المعيشية للناس على نحو أسقط التعاطف الشعبي بعد انحساره.

في المقابل، وخلافًا لكارثة "حكم المرشد" في مصر، أسقطت ورقة إخوان السودان من صفوف الذين تم "الانقلاب" عليهم، وهذه المرة أتى برهان جديد على حجم معضلة الحكم في الشرق الأوسط. السودان - كمعظم دول الإقليم - حافل بالتعددية الإثنية الدينية والعرقية، الأمر الذي لن تقوم فيه للديموقراطية الحقة قائمة ما لم يكن الحكم مدنيًا علمانيًا، والإدارة لا مركزية شفافة تقوم على تساوى المواطنين في دولة المواطنة بالحقوق والواجبات.

لم تفلح كل محاولات الرئيس المخلوع عمر حسن البشير الذي أتى بانقلاب "إنقاذ وطني" في الإبقاء على وحدة ما استلم من أسلافه، فاندلعت حرب إبادة في دارفور، وانشطر السودان إلى بلدين. أفلح حمدوك والبرهان معا في اتفاقات سلام مع قوى معارضة مسلحة ورفع البلاد عن لائحة الإرهاب الأمريكية، لكنهما أخفقا في التفاهم داخل بيت المرحلة الانتقالية، والارتقاء بالبلاد إلى سودان جديد لا يمكن أن يستمر حكمه بأدوات الماضي.

سودان "اتفاقات إبراهيم" غير سودان "اللاءات الثلاثة" (القمة العربية في الخرطوم ١٩٦٧: لا صلح لا اعتراف لا تفاوض مع إسرائيل). فهل يتصالح العسكري مع المدني؟ هل يعترف بوجوده أصلا كصاحب الولاية الشرعي في الحكم؟ تلك مسألة قيد التفاوض على ما يبدو على مستوى المنطقة وليس السودان وحده..

نشر
محتوى إعلاني