تذكارات المساحة السياسية و"الإنسانوية" في العام الرابع على 25 يناير
بعد خمسة أيام بالضبط تحل ذكرى الخامس والعشرون من يناير، وهي في عام 2104 الذكرى الرابعة لظاهرة أصبح التعامل معها غامضاً الى حد كبير. ومكمن الغموض قد يتعلق بزاوية رؤيتها، في كونها مثلاً، "ثورةً" أم "انتفاضةً" أم "تحركاً عارماً" أو في كونها أطاحت "بنظام حكم" أو أسقطت "نظاماً" من زاوية المبدأ أو أنها أعادت انتاج علاقات القوى الإجتماعية والسياسية في قارة ضخمة كمصر، وهلم جر. هنالك الكثير من المساحات الرمادية في هذا كله، وتجاذباتٌ بعضها ذو ملمح دموي وبعضها الآخر عسيرٌ على الهضم والتفسير.
في تلك اللحظات من يوم 28 يناير عام 2011، والتي اندلعت فيها النيران في مقر الحزب الوطني على كورنيش النيل في قلب القاهرة، كان يبدو أن دهراً كاملاً انتهى، وأن آخر في الطريق ليأخذ مكانه. لكن ذلك اليوم يبدو من زمن آخر لا يمت بصلة لما نحن عليه الآن. في عصور مضت كان مفهوماً أن يتخذ ما يُسمى بالانخراط السياسي منحىً واحداً وباتجاه واحد، حيث لم يكن هناك شيء ليتم الانخراط فيه. وقُصد بالانخراط السياسي إشاعة حرية التأثير في مجرى صنع القرار لجميع الراغبين في ذلك، وبالتأكيد من يحق لهم ذلك. والمنحى الواحد والاتجاه الواحد معناهما هو حالة "الأمر الواقع". وفي تلك الأزمان الماضية من عصر مصر القارة، ومصر المثال الممتد في عمق الصورة العربية المعاصرة، لم يكن يحق شيءٌ لأحد، ليس لانعدام المطالبة بالحق، بل بسبب شراسة وضراوة ومقاومة مدراء حالة "الأمر الواقع" في حماية منافعهم، التي تزول بممارسة أصحاب الحق لحقوقهم. ولكي يتمكن فريق أصحاب الحق من الاندفاع باتجاه المطالبة به، فيلزمه مساحةٌ للتحرك - وهنا من المفيد أن نشير الى أن مسائل مثل حرية التنظيم وحرية التعبير والتجمع السلمي، هي الوسائل التي تلزم مثل هذا التحرك، وأن توفر لدينا في المشهد العربي عموماً من دأب على تصوير هذه المسائل بطريقة شعرية وأحياناً شاعرية، الى درجة ترعرعت معها أجيالٌ بأكملها مقتنعةً أن تلك المسائل تنتمي للمدينة الفاضلة وليس للمدن الكبيرة، والصغيرة، والأرياف التي نعيش بها.
لم تكن هناك مساحةٌ فعلية في سنوات ما قبل الحراك العربي الكبير، وتلك حالة وليس نتيجة مجردة، اذ يلزم الوصول الى تفكيك أجزاء المعادلة التي من شأنها الإفضاء إلى نتيجة كذلك، سياق معقد من الاستطراد والتحليل. وغياب المساحة الفعلية للتحرك، كحالة، يصطحب دوماً معه أعراضاً مرئيةُ من الإفساد، التعسف، الاضطهاد، والهيمنة. كل ذلك كان موجوداً. وكان من شأن حراك ضخم، كالذي جلجل مصر في الطريق الى 25 يناير 2011، وما بعده، أن لا يطيح بالنظام. بل لقد فتح المساحة السياسية على مصراعيها، ومن جميع اتجاهاتها، ووسع رقعتها المحدودة أضعاف ما كان ممكناً أن تتخيله في أزمنة سابقة. وشكل ذلك في الحقيقة أزمةً جوهريةً للنظرية التي يقوم عليها إطار حماية حقوق الإنسان المعاصر. فهو، أي الإطار، يقوم أساساً على آليات تعاقدية، وبعضها تعاهدية، بين دول تمثلها حكوماتها، والكيانات التي تسهر على مراقبة الالتزام بهذه التعاقدات، وهو ما يشكل قانون حقوق الإنسان بأبسط تعبيراته. ومكمن التأزم يعود إلى أن النظرية التعاقدية تقوم على أن "الدولة كافلة للحقوق" في حين أن انسداد أفق المطالبة بالحقوق في الدول المعنية، مصر والدول العربية، يعود في أساسه الى أن "الدولة" مضت في مشوار طويل، معبد بسنوات طويلة من الممارسات، وبناء المؤسسات، وغيره، بعكس ذلك، أي باتجاه سلب الحقوق. وكان جلياً أن لا فائدة ترجى من توقيع المعاهدات، أي التعاقد لحماية حقوق الانسان، ومن ثم المطالبة باحترامها. لم تفتح أي معاهدة وقعتها مصر، وهي وقعت الكثير، إنشاً واحداً في مساحة سياسية ضرورية لتمكين الناس من الوقوف خلف حقوقهم والمطالبة بها. هدير أصوات الملايين في أرجاء مصر فعل ذلك.
وفي أربع من السنين، تمددت هذه المساحة في أرجاء غير معهودة من الحياة السياسية والاجتماعية في مصر، في لحظات معينة، وعادت للانكماش في لحظات أخرى، إلى أن عادت، كما يظهر الآن إلى الانغلاق على نحو مقلق، وربما الى أمد طويل. صحيحٌ أن الفريق الذي يطلب الحقوق تقدم مراراً في الاتجاه الصحيح، إلا أنه كان غالباً غير منظم، ويشوب الخلل أوساطه، ومن دون قائد للفريق. وأحياناً سار الفريق بالاتجاه المعاكس، وضرب مرماه بدلاً من الخصم. وفي تلك الأثناء، أنشأ مدراء الأمر الواقع المزيد من التحصينات، ووضعوا المزيد من الحواجز والمتاريس في قلب المساحة، القوانين مثال على ذلك، وكسبوا من النقاط ما عجز فريق المطالبة بالحق أن يحلم بتحقيقها. والمهم تسجيله هنا، أن التبادل السياسي، على شكل تسلم الحكم، السلطة، ومغادرتها، أو الطرد منها، لم يُكرس سوى المزيد من غلق المساحة العامة الأوسع. ولم يفعل سلوك جميع من تسلم الحكم في السنوات الأربع، سوى زيادة القيود على الحراك، باتجاه خنقه مطلقاً.
السلطة ليست مفسدةً لأنها كذلك بشكل مطلق. إنما هي تصبح كذلك حين يُفسدها من يأتيها، وحين تسمح آلية عملها بذلك.
الفريق المطالب بالحقوق، خارج منطقة اللعب في الوقت الراهن. ونحن لسنا في استراحة بين الشوطين، بل خارج إطار المسابقة. وعلى غرار ما قلناه في المقدمة، هناك ما هو عسير على الهضم والفهم في كل هذا. وهو ما أردت الإشارة إليه باعتباره ما خسرناه على الصعيد الإنسانوي. وأستعير هنا سطوراً من ما كتبت على مدونتي الشخصية في أوائل سبتمبر من عام 2013 في هذا المجال:
"الانسجام ليس يافطةً تُعلقُ على مدخل منزل ناشط أو مبنى منظمة غير حكومية (ومنها ما هو حكوميٌ بصيغة تآمرية). الانسجام يعني أن لدى هذا أو ذاك، هاته أو تلك، تفسيرٌ يقوم على محاور جوهرية ثابتة، دائماً وفي كل الظروف، وأحياناً في وجه موجة من الاحتقانات، والانفجارات، المجتمعية والسياسية. إن فسر، مثلاً، حادثةً ما باعتبارها ‘انتهاكاً لحق إنساني’ فهو مُلزمٌ بتفسير حادثة اُخرى تنطوي على نفس الظروف والمواصفات والعوامل، بذأت الطريقة. وإن اختلف تفسيره، وإن اعتبر الأول انتهاكاً والثانية غير ذلك، فهناك خللٌ، وخللٌ جسيم، مردهُ ليس مجمل المبادئ والمعايير التي تقوم عليها حقوق الانسان، والتي ليست بالمناسبة منظومةً شعرية أو أخلاقية؛ بل تدخل في صلب القانون وتجعل من الحق التزاماً قانونياً ودستورياً."
ظهرت هذه السطور في مدونة كانت تسجل نقداً حاداً للدور أو لغياب الدور "الحقاني" ولا أريد تسميته بـ"الحقوقي" كون الأخير ينطوي على مدلولات مختلفة لا تفي بالغرض المطلوب. كان سهلاً في سنوات مصر الأربع الماضية أن يصبح "قتل الآخر" وليس مجرد إقصاءه أو استبعاده "مطلباً شعبياً". وكان سهلاً أن يتم تصوير الناس باعتبارهم كومة من غبار، أو نقاطاً عابرةً من الحبر على صفحة كبيرة. وكان سهلاً أن يتطور مفهوم الدفاع عن الحق في الحياة، إلى دفاع شرس ومكتوب على شكل بيانات صادرة من منظمات حقوق إنسان عن إطلاق الرصاص على معتصمين ومتظاهرين يقولون: "هذه هي المعايير".
كانت فكرة حقوق الإنسان، حين تبلورت على شكل نصوص قانونية في معاهدات واتفاقيات، أن تنتهي عذابات البشر بسبب ممارسات بشر آخرين. تشير الوقائع الى أن المفهوم المعاصر في مصر، ربما، التقط فكرة أن ينتهي البشر قبل أن تنتهي عذاباتهم. فادي القاضي
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه، فادي القاضي، الخبير والمحلل المختص في شؤون وسياسات المجتمع المدني وحقوق الانسان والاعلام والعمل الإنساني، ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN