طواحين الربيع العربي: شدوا الأحزمة يا سادة
بيروت، لبنان (CNN) -- تصدح الإذاعات اللبنانية بعيد كل استحقاق وطني بأغنية "راجع راجع يتعمر راجع لبنان" للفنان الراحل زكي ناصيف، حتى كادت هذه الأغنية أن تكون الأكثر انتشارا عبر تاريخ البلاد؛ نظرا لكثرة الأزمات الموسمية في لبنان.
غير ان اللبنانيين يختلفون - في جُملة ما يختلفون - على تدوين تاريخهم الحديث منه قبل القديم، بما يجعل نظرية "راجع يتعمر" صعبة التحقق في المدى المنظور؛ ذلك أن الخلاف على كتابة التاريخ لا يقتصر عند حدود النظام التعليمي (لا يوجد كتاب تاريخ موحد حتى الساعة في المدارس اللبنانية)، بل يتعداه الى العمل السياسي الذي يستند في معظم الأحيان الى تفسيرات ضيقة لأحداث تاريخية.
وللأمانة لم أكن أعي حجم هذا الاختلاف في تفسير التاريخ، حتى عايشت شخصيا تجربة بسيطة في هذا الصدد، أثناء عملي على انتاج سلسلة وثائقية تروي وتكشف أسرار حقبة محددة خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
وسأكتفي بذكر حادثة حاضرة تماما في الذاكرة الشعبية ولكنها تجسد بامتياز الاختلاف - بل الخلاف - في رواية التاريخ اللبناني.
خلال الاجتياح الاسرائيلي لبيروت في العام 1982، وقعت مواجهة عسكرية محدودة بين القوات الاسرائيلية ومقاتلين لبنانيين وفلسطينيين في منطقة "خلدة" عند تخوم المدخل الجنوبي للعاصمة.
تستمد هذه المواجهة أهميتها من كونها كانت الأعنف والأشدّ تأثيرا نسبيا آنذاك لناحية ابطاء تقدم القوات الاسرائيلية.
خلال محاولتي توثيق هذه العملية، وجدت نفسي ببساطة أمام أكثر من خمس روايات تنسب كل واحدة منها الانجاز العسكري الى طرف مختلف (وهذه الاطراف جميعها حليفة اليوم) -- علي شهاب .
وحين قمنا بتنفيذ المقابلات مع مقاتلين ميدانيين شاركوا في تلك العملية، اكتشفت أني أمام كعكة يحاول كل طرف اقتسام أكبر قطعة منها، وأن أقصى ما يمكن الوصول اليه هو سرد تفاصيل -- علي شهاب مما حدث في مواجهة خلدة من دون تقديم الرواية كلها، بما ان التحقق من دقة الروايات المختلفة يحتاج تحقيقا أمنيا تديره الدولة لا عملاً اعلامياً وثائقياً.
قد تكون مواجهة خلدة محطة تاريخية محلية، وبالتالي يمكن فهم الظروف المحيطة بتدوينها؛ غير أنّ الاختلاف في رواية أحداث بحجم اتفاق السابع عشر من أيار 1983 (اتفاق سلام بين لبنان واسرائيل) أو مجزرة صبرا وشاتيلا في السادس عشر من أيلول 1982 (بحق اللاجئين الفلسطيينيين) أمرٌ لا يمكن تفسيره سوى بأنّ التاريخ في لبنان هو مجرد وجهة نظر يجري تقديمها بحسب المصلحة السياسية، لا للإستفادة من عِبَرها في بناء المستقبل.
لا تبدو الامور أفضل حالا في معظم الدول العربية، ولعلّ هذا ما يفسّر تكرار الاحداث التاريخية في هذه الدول (مثال ما يجري في سوريا، مصر، العراق وما سيحدث في بقية الدول تباعا) انطلاقا من نظرية فلسفية مفادها ان "قدر الشعوب التي لا تقرأ التاريخ ان تعيش عذاب تكراره". بعبارة أخرى، تبدو كلمات الكاتب الاسباني ميغيل دي سيرفانتس؛ مؤلف رواية "دون كيشوت"، أشد وقعاً في وصف قواعد التاريخ: " إن طواحين الآلهة بطيئة لكنها تسحق حين تعمل..
بناءً على ما تقدم، لا غرابة في تفكك "نظام حبات الخرز" وتسارع أحداث "الربيع العربي" كنتيجة طبيعية لسنن الكون والتاريخ: الفساد يولد الفوضى، الظلم يولد الثورة، القتل يولد القتل..وهكذا دواليك...
يستخدم السياسيون في لبنان وبقية الدول العربية مصطلح "مزبلة التاريخ" في معرض تصنيف الخصوم المحليين.
في الشرق الأوسط للأسف، ليس للتاريخ مزبلة..التاريخ هو المزبلة -- علي شهاب .
وحتى يقرر اللبنانيون والعرب الاعتبار من التاريخ، شدوا الأحزمة يا سادة فنحن امام منعطف تاريخي.. وقد نضطر الى الالتفاف بعد قليل!
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه، ولا يعكس بالضرورة وجهة نظر CNN.