رأي.. عن الوصائية وإلغاء حق المواطن في الاختيار
يُنشر هذا المقال تزامناً وبالتعاون مع جريدة "الشروق" المصرية في عددها الصادر السبت
تشير الفكرة الوصائية إلى نزوع الحاكم الفرد أو نخبة الحكم الشمولية/ السلطوية أو المؤسسات الدينية أو مؤسسات وأجهزة القوة الجبرية أو الحركات السياسية والاجتماعية صاحبة الإدعاء الدائم باحتكار الحقيقة المطلقة، إلى أن تحدد للمواطن معايير الخير والشر الصواب والخطأ، والمبادئ والقيم التي يؤمن بها، والأفكار التي يثق في صحتها، و"المعلومات والمعارف" التي يحصلها، والآمال والأحلام التي يتطلع إليها.
بعبارة أخرى، تحدد الفكرة الوصائية للمواطن الكيفية التي يتعين عليه وفقاً لها تنظيم حياته الخاصة والعامة، وتجرده من حقه في الاختيار ومن تمتعه بحرية الفكر والاعتقاد والقول والفعل، وتحوله عملاً من مواطن له وجوده الفردي، إلى عضو/ عنصر/ طرف ينسحق داخل حدود الجماعة/ المجتمع/ الشعب/ الرعايا/ الجماهير.
وعلى الرغم من الأجندة الديمقراطية لثورة يناير 2011 والطلب الشعبي الواضح آنذاك، على انتزاع الحق في الاختيار، وفي التمتع بالحريات، وفي الخروج من الوصائية التي مارسها حكام مصر بمضامين مختلفة بين 1952 و2011، إلا أن محاولات فرض الفكرة الوصائية مجدداً على المصريات والمصريين، لم تتوقف، وتعددت مصادرها.
فقد أراد المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تارة منفرداً، وتارة موظفاً للتنسيق مع جماعة الإخوان المسلمين وحركات وتيارات اليمين الديني الأخرى، تحديد الأولويات الشعبية (الخبز والأمن والاستقرار، قبل الحرية والديمقراطية) ومسارات إدارة الدولة والمجتمع والسياسة فوقياً، وافتراض تأييد الناس المسبق لها، أو دفعهم إلى تأييدها، عبر زيف تخوين وتشويه البدائل، أو نزع الوطنية عنها، أو نشر الخوف من دعاتها واتهامهم ظلماً بمعاداة المصلحة الوطنية والصالح العام.
وبين عامي 2011 و2013، ومع بلوغ حركات وتيارات اليمين الديني، الإخوانية والسلفية، مواقع الأغلبية في السلطة التشريعية (مجلس الشعب ومجلس الشورى ثم المجلس الثاني بمفرده بعد حل الأول من قبل المحكمة الدستورية العليا في صيف 2012، والجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وفاز الدكتور محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسية، تصاعدت وتائر الترويج للفكرة الوصائية، ووظف الخلط المرفوض بين السياسة والدين لتبريرها.
هنا أصبح، زيفاً، التصويت لصالح اليمين الديني في الانتخابات البرلمانية والرئاسية ضرورة يمليها "صحيح الدين" على الشعب المصري "المتدين بطبعه"، وحتمية تقتضيها أهداف الخبز والأمن والاستقرار.
هنا أصبحت، زيفاً، موافقة الأغلبية على دستور 2012، الذي سيطر الإخوان والسلفيون على صياغته، ترجمة مباشرة لقبول الناس لوصاية اليمين الديني على الدولة والمجتمع، ولاعترافهم لهم بامتلاك ناصية الحقيقة المطلقة.
هنا أصبح، زيفاً، النص في دستور 2012 على دور الدولة في حماية مكارم الأخلاق والتقاليد والعادات والطابع الأصيل للأسرة المصرية، وعلى دور المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف) في تعيين حدود الخير/ الشر والصواب/ الخطأ والمقبول/ المرفوض للسلطة التشريعية، وعلى إخضاع الحقوق والحريات الشخصية والمدنية لقيود مصدرها، فهم رجعي للدين، وخلل في التمييز بين الثابت والمتغير في الأنساق القيمية الدينية، إقرار لإرادة شعبية باحثة عن الوصاية، بقدر عزوفها الدائم عن الحق في الاختيار والحرية.
هنا أصبحت، زيفاً، معارضة أغلبية اليمين الديني في السلطة التشريعية والجمعية التأسيسية للدستور، وأصبح الوقوف في وجه سياسات وممارسات سلطوية تورط بها الدكتور محمد مرسي (من إعلان الاستبداد الرئاسي في نوفمبر 2012 إلى انتهاكات لحقوق الإنسان والحريات) بمثابة "خروج مذموم" عن الإرادة الشعبية القابلة والمسلمة بوصائية اليمين الديني، خروج لا تمارسه إلا مجموعات وجبهات فاسدة، ينبغي تكفيرها وإقصاءها وإلغاء حقها في الوجود.
منذ يوليو 2013، وعلى الرغم من أن الحراك الشعبي الواسع الذي جسده 30 يونيو 2013، رفض وصائية اليمين الديني (تماماً كما رفضتها من قبل الاحتجاجات الشعبية المتكررة ضد إعلان الاستبداد الرئاسي في نوفمبر2012، وضد دستور 2012) وطالب بإنهائها، عبر آلية ديمقراطية، هي الانتخابات الرئاسية المبكرة، وبحث عن الانتصار لحق المواطن في الاختيار والحرية، والدوائر النافذة في الحكم/ السلطة والمتمثلة في المكون العسكري – الأمني، والنخب الاقتصادية والمالية والإعلامية المتحالفة، تتورط في الترويج لفكرة وصائية ذات مضامين أخرى على المصريات والمصريين، وفي فرضها عليهم بأدوات متنوعة.
منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة في الحكم/ السلطة تحتكر حق الحديث باسم الوطنية/ المصلحة الوطنية، لتفرض على الناس قبول مقايضة الخبز والأمن بالحرية، ولتدفعهم إلى عدم الممانعة في حدوث انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان وللحريات، أو إلى تجاهلها، أو إلى التعامل معها بمعايير مزدوجة، أو إلى تبريرها، لأن "مصر في خطر"، ولأن "الحرب على الإرهاب" تقتضي ذلك.
منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة في الحكم/ السلطة تختزل الوطن/ الدولة/ المجتمع في شخص وزير الدفاع السابق المشير عبدالفتاح السيسي/ المرشح الرئاسي، وتطرحه على الناس كالبطل المنقذ، أو البطل المخلص، الذي تفرض دوره ضرورات "المرحلة"، والقادر على.إنقاذ مصر" من "المؤامرات الداخلية والخارجية"، وتزج بهم مجدداً إلى خانات الحل الوحيد/ البديل الوحيد، وإلى قبول إطلاق يد المنقذ والمخلص في الدولة والمجتمع، وبالتبعية إلى إلغاء حقهم في الاختيار والحرية، بعد أن ألغي حقهم في التواجد في المساحة العامة والتعبير السلمي عن الفكر والرأي بين تخومها (قانون التظاهر وغيره من القوانين القمعية).
منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة في الحكم/ السلطة تخوّن وتشوه المجموعات والأصوات المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، وتحيط دورها بمضامين سلبية متنوعة (الفوضى/ التخريب/ إسقاط الدولة/ تدمير المجتمع) لكي تنزع عن الناس القدرة على التفكير الحر والتدبر في أهداف هذه المجموعات والأصوات والاستماع الجاد إلى منطقها الذي يرى الظلم والاستبداد والسلطوية كمعاول الهدم الحقيقي للدولة وللمجتمع، ويسعى إلى الانتصار لتماسك الدولة والمجتمع بالحق والعدل والحرية والسلم الأهلي، وبالتبعية لكي تقضي على الحق في الاختيار وحرية البحث عن السياسات والقرارات الأمثل لمواجهة أزمات الإرهاب والعنف والخروج عن مسار التحول الديمقراطي.
منذ يوليو 2013، والدوائر النافذة في الحكم/ السلطة تحاول فرض وصائيتها على الناس وخطوط إدراكهم وأفكارهم وأقوالهم وأفعالهم في الحياة العامة والخاصة، عبر آلة تزييف الوعي الإعلامية، وعبر الترويج للسلطة الأبوية لوزير الدفاع السابق/ المرشح الرئاسي الحالي، وصناعة صورة نمطية عنه، تهدف ملامحها إلى إقرار وقبول دوره في تحديد الكيفية التي يتعين وفقاً لها أن ندير حياتنا الخاصة - من تقويم الأخلاق واستعادة التقاليد والعادات الحميدة، إلى ضبط إعوجاجات أنماط الاستهلاك المنزلي، وأيضاً حياتنا العامة - من العمل والالتزام والتوقف عن الاحتجاج والتظاهر، إلى إعطاء الأولوية للخبز وللأمن وللاستقرار، على حساب حقوق الإنسان والحرية والثقة المطلقة في قيادة البطل المنقذ/ المخلص، والانصهار في الرأي الواحد والصوت الواحد، وعدم الالتفات إلى المغردين خارج السرب/ الأصوات التي تريد إسقاط الدولة والمجتمع.
وهنا وصائية شاملة، وإلغاء تام للحق في الاختيار وللحرية، ولوجود المواطن الفرد، لا يختلفان أبداً عن الفكرة الوصائية لليمين الديني، بل تتصاعد خطورتهما اليوم على مصر، نظراً للتأييد الشعبي، ولتوظيف أدوات الدولة والمصالح الخاصة الاقتصادية والمالية والإعلامية، لتثبيت مرتكزاتهما.
بقلم: عمرو حمزاوي - أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
ملاحظة المحرر: المقال يعكس وجهة نظر كاتبه ولا يعبر عن وجهة نظر CNN