ألون بن مئير يكتب.. "لعنــــة الإحتــــــــــــــــلال"
(الآراء الواردة في المقال تعكس وجهة نظر صاحبه، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر لـ CNN)
يبدو للوهلة الأولى أنّ انتقاد احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة، في الوقت الذي تطلق فيه حماس والجهاد الإسلامي مئات الصواريخ من قطاع غزّة باتجاه إسرائيل، أمرٌ غير مناسب في أحسن الأحوال، فالعديد من الإسرائيليين يبرّرون استمرار الإحتلال بتصعيد وتيرة العنف، ويقول هؤلاء إنّه لا يمكن لإسرائيل أن تسمح بأن تصبح الضفّة الغربيّة تحت أيّ ظرف ٍ من الظروف مثل غزّة، أي أرضا ً لانطلاق الهجمات الصاروخيّة التي قد تسبّب موتا ً ودمارا ً لا يمكن تصوّرهما.
تُستخدم أعمال العنف المتكررة والمنبثقة من قطاع غزّة والهدوء النسبي في الضفّة الغربيّة المحتلّة "لتبرير" هذا الإدّعاء، وفي الواقع فإن الإحتلال نفسه هو السبب الرئيسي وراء الصّراع الإسرائيلي - الفلسطيني المستمرّ والحرب الحاليّة المروّعة بين إسرائيل وحماس.
فبالرّغم من أنّ لإسرائيل مخاوف أمنيّة وطنيّة مشروعة ولها كلّ الحقّ في الدّفاع عن نفسها، غير أنّ استمرار الإحتلال يُستخدم بشكل رئيسي كتغطية لساسة التوسّع الإقليمي الذين يؤمنون بإسرائيل الكبرى. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والعديد من أعضاء حكومته يصرّحون جهاراً عن اعتقادهم بأن "الشعب اليهودي ليس محتلاًّ أجنبيّا ً"، ففي خطابه أمام الكونغرس الأمريكي يوم 24 مايو/أيار عام 2011 قال نتنياهو بتشدّد:"هذه أرض أجدادنا، أرض إسرائيل التي جلب إليها إبراهيم فكرة الإله الواحد...فلا يستطيع أيّ تحريف ٍ في التاريخ أن ينكر رباط الأربعة آلاف عام ما بين الشعب اليهودي والأرض اليهوديّة".
أمّا نفتالي بينيت، وزير الإقتصاد، فقد عكس مشاعر العديد من الإسرائيليين عندما صرّح في عام 2012 قائلا ً:"من الواضح أن أرض إسرائيل الكبرى هي أرضنا" وهو يدعو الآن جهارا ً لضمّ المنطقة "ج" فعليّا ً، والتي تمثّل 60 في المائةمن الضفة الغربيّة، لإسرائيل.
وبالنظر لهذه المعتقدات الإيديولوجيّة والدينيّة العميقة وفشل المفاوضات الأخيرة التي تبنتها الولايات المتحدة، فإن أمل الفلسطينيين الضعيف أصلا َ في إقامة دولة ٍ مستقلّة لهم قد ازداد اضمحلالاً أكثر فأكثر.
وإنكار أنّ إسرائيل قوّة محتلّة، كما يفعل العديد من الإسرائيليين، هو قمّة النفاق. وافتراض أنّ هناك حق تاريخي وتوراتي لليهود على "أرض إسرائيل" يعود إلى أربعة آلاف عام، يلغي حقّ الفلسطينيين الأصليين، لهو أمر ٌ يتحدّى المنطق والحقيقة على أرض الواقع. وبصرف النّظر عمّن هو على حقّ وعمّن هو على باطل، فإن الإحتلال بطبيعته المجرّدة يقوّض القيم الأخلاقيّة للمحتلّ، الأمر الذي يؤدي إلى انتهاكات حقوق الإنسان لمن هم تحت الإحتلال بدون عقاب تقريبا ً. وحصار غزّة في هذا السياق أمرٌ سيّء، لربّما حتّى أسوأ من احتلال الضفّة الغربيّة نفسها. هذا بدوره يولّد كراهيّة وغضب، فالشعب الواقع تحت الإحتلال يضمر العداء للمحتلّ، ويلجأ غالبا ً للمقاومة المسلّحة وللثأر والإنتقام. فاختطاف وقتل الشبّان الإسرائيليين الثلاثة، وخطف الصبيّ الفلسطيني الذي ضُرب وأحرق حيّا ً كردّ فعل ٍ انتقامي، قد غذّى، أو على الأقلّ جزئيّا ً، دورة العنف الحاليّة. لقد قال الكاتب المسرحي اليوناني أويريبيدس: "على الأقوياء ألاّ يسيئوا استعمال قوّتهم، وعلى المحظوظين ألاّ يفكّروا بأنّ الحظّ سيحالفهم إلى الأبد". فما يعنيه أويريبيدس وغيره من الكتّاب المسرحيين اليونانيين، هو جرائم الدمّ التي تخلق الواحدة منها الأخرى، بحيث ينشأ عن ذلك دورة دمار لا تنتهي أبداً، أو كما قال أشيلوس:"الغطرسة القديمة تولّد غطرسة ً جديدة...".
السخرية المحزنة في الأمر، هي أنّه ما دامت حماس تسعى علنا ً لدمار إسرائيل وتشجّع على ذلك وتقاوم الحصار بالسّلاح، فإنها تقدّم لإسرائيل بذلك العذر والمنطق اللذين تحتاجهما إسرائيل للإبقاء على الحصار وعلى احتلال الضفّة الغربيّة كامتداد لذلك. وهذا يفسّر سبب عدم سعي حكومة نتنياهو لتدمير حماس كليّا ً واختيار بدلا ً من ذلك "احتواء" قوّتها القتالية بإضعافها كلّ بضعة أعوام وتدمير معظم بنيتها التحتيّة لإبقائها في منأى ً عنها.
والسؤال الذي تعود إليه دائما ً التراجيديا الإغريقيّة هو: هل باستطاعتنا أن نتعلّم من كلّ ذلك؟ فكم من دمار ٍ وقتل وحشيّ للأنفس يجب أن يتمّ، قبل أن "ندرك الحقيقة"- أي بمعنى قبل أن نتعلّم حقيقة الإعتدال وضبط النفس واحترام الحدود وأخيرا ً المصالحة ؟
وبالعكس، فرغم أنّ حماس تدرك بأنّه لن يكون بمقدورها يوما ً تدمير إسرائيل، وبصرف النّظر عن المعاناة الشديدة للفلسطينيين القانطين والمحاصرين في قطاع غزّة، فإن استمرار القتال والنضال بالنسبة لحماس، يعتبر مبررا ً لوجودها ولكونها "القوّة الصامدة" ويمدّها بـ"الشرعيّة"، لأنها تسعى على تقديم نفسها بصورة بطلة القضيّة الفلسطينّية.
يتجاوز هذا التكرار لأعمال الثأر والإنتقام بشكل ٍ مهووس ومتواصل حدّ الأخلاق المدنيّة. ولكن كما ذكر أيضا ً أشيلوس، هناك يوم نهائي للحساب:"عاجلاً أم آجلاً ...اليوم المحدّد سيأتي". كم مرّة علينا أن نكرّر هذه الدورة التي لا معنى لها من إراقة الدّماء؟
ستتفق إسرائيل وحماس عاجلا ً أم آجلا ً على هدنة أخرى محفوفة بالمخاطر، والتي ستستمرّ فقط طيلة خدمتها مصالح الطرفين. وأثناء ذلك سيستعدّ كلا الطرفين للجولة الجديدة من القتال على حساب أغلبيّة الإسرائيليين والفلسطينيين الذين ضاقوا ذرعا ً بقادتهم الذين يتجاوز التزامهم العقائدي وأنانيتهم المصالح الوطنيّة.
يجب أن تتذكّر إسرائيل أنّها في صحوة الحرب العالميّة الأولى، وبالأخصّ بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالميّة الثانية، قد نشأ نظام سياسي عالمي جديد ترسّخ فيما بعد في ميثاق الأمم المتحدة ولا تستطيع بموجبه أية دولة – أو بالأحرى يُسمح لها – بالإبقاء على احتلال ٍ ناتج عن حرب. وبهذا المعنى، إسرائيل هي الدولة الوحيدة في الوقت الحاضر التي تُعتبر قوّة محتلّة.
تعلم قيادة حماس أنّه ليس بإمكانها تدمير إسرائيل وأنها لن تستطيع حكم قطاع غزّة للأبد، ليس لأنّ إسرائيل قادرة على تدميرها بل لأن الأغلبيّة العظمى من الفلسطينيين في قطاع غزّة ستثور يوما ً ما عليها وتطالب بوضع نهاية لشقائهم وعبوديتهم المسؤولة عنها حماس. هم سجناء في أرضهم، محاصرون من قبل إسرائيل برّا ً وجوّا ً وبحراً، وتقمعهم في الداخل شرطة حماس وأجهزتها الأمنيّة الإستخباراتيّة، وتصبح الظروف المزرية التي يعيشونها أصعب وأتعس في كلّ مرّة تتحدّى فيها حماس إسرائيل.
من الحكمة أن يواصل الرئيس محمود عبّاس المسيرة، وأن يستمرّ على درب المفاوضات السلميّة، ولكن يجب عليه أن يصرّ على أنّه إذا أرادت حماس البقاء في حكومة الوحدة الوطنيّة، يجب أن يعود قطاع غزّة أيضا ً تحت السيطرة الكاملة للسلطة الفلسطينيّة.
وبالنسبة لمصر، فإنها على حقّ في إصرارها أن يتضمّن أي وقف لإطلاق النار قيام قوات أمن السلطة الفلسطينيّة بحراسة المعبر الحدودي مع مصر، وأن تبقى إسرائيل أيضا ً على إصرارها بأن تكون السلطة الفلسطينيّة ضمن الأطراف الموقّعة على أية اتفاقيّة للهدنة.
الإصرار على هذه الشروط الآن مقابل بعض التنازلات لحماس، قد يغيّر الديناميّات ما بين حماس وإسرائيل، وقد يعطي فرصة َ جديدة لاستئناف مفاوضات السّلام.
وللتأكيد، الإحتلال لعنة تنزع الإنسانيّة من المحتلّ والواقع تحت نير الإحتلال، وهو يتناقض مع كلّ القيم والمبادىء الإنسانيّة. ولذا، يجب على إسرائيل أن تأخذ زمام المبادرة لأنّه لا يمكن الإبقاء على إنجازاتها الرائعة واستمرار وجودها بقوتها العسكريّة المهيبة فقط، بل بالأحرى بالتزامها بالقيم الأخلاقيّة التي عانى وهلك من عدم وجودها في الماضي ملايين اليهود.