مقال لأحمد عبد ربه .. "فض الاشتباك في المشهد المصري"
هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
أصبح معتادا في مصر أن تقع حادثة إرهابية هنا أو هناك يقع جنود الجيش أو الشرطة أو كلاهما ضحية لها، فنجد حملة شعواء تتهم أنصار الديموقراطية وحقوق الإنسان بالتحيز ضد الجيش، وأنهم لا يذرفون الدمع إلا على التيارات التي يؤيدونها خلسة، أصبح طبيعيا في مصر أن يطالب البعض بإبعاد المؤسسة العسكرية عن الشأن السياسي، فيتم اتهامه بمعاداة الجيش والسعي لإسقاط الدولة، كما أنه ليس من المستغرب الآن أن يدعو أحدهم لنصرة أهل غزة ضد جرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال بشأنهم فيواجه بسيل اتهامات أنه من داعمي حماس وهكذا.
أصحاب هذا النوع من الهجوم ليسوا مجرد مواطنين عادين أخطأت بوصلتهم السياسية في الحكم على الأمور ولكنهم أيضا قادة رأي من خبراء وأكاديميين وحزبيين وصناع قرار مما يستلزم في رأيي وقفة لفض الاشتباك في قضايا عديدة ملتبسة في المشهد السياسي المصري، لأني لا أعتقد أن طريق التقدم والازدهار في مصر يمكن أن يبدأ وهذا الكم من الاشتباك موجود في بيئتها:
أولا: فض الاشتباك بين الانقلاب والثورة، أعلم أن الموضوع حساس وهو موضع للمزايدات من هنا وهناك، لكن لابد من فض هذا الاشتباك، قامت ثورة على رئيس فاشل، استغلتها أجهزة الدولة للقضاء على جماعة الرئيس خصمها التاريخي اللدود، وتم انقلاب ناعم على الرئيس المنتخب بشروط وعهود قطعها على نفسه ثم انقلب عليها هو الآخر، هذه هي روايتي ويحق لأي شخص أن يختلف معي ويراها ثورة كاملة أو انقلاب مكتمل الأركان، المهم أن نتجاوز هذا الجدل التاريخي، إن كنت تعتبرها ثورة فعليك أن تقف مع نفسك وتقيم إن كانت بالفعل طبقت ما نادت به، وإن كنت تراها انقلاباً، فعليك أن تسأل نفسك لماذا أضاع رئيسك صاحب الشرعية الفرصة تلو الأخرى حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، قراءة واقعية للمشهد المعقد لفك التباسه أفضل وأوقع من البكاء أو التحيز للقصص الأحادية الساذجة التي ترى الدنيا مجرد حكاية طفولية للخير ضد الشر.
ثانيا: فض الاشتباك بين الدولة والنظام، إذ لا يعقل ولا يقبل أن يتورط أكاديمي أو مثقف في الخلط بين الكيانين، الدولة بالتعريف البسيط هي الأرض والشعب والحدود والسيادة، أما النظام فهو كيان مستقل يتكون من مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية وأحزاب سياسية وجماعات ضغط ومصالح يجمعها إطار قانوني ودستوري، من حق أي شخص أن ينتقد النظام، طالما انتقاده كان موضوعيا، وحتى لو كان النقد لاذعا وحتى لو وجه إلى رأس الدولة، هذه أبسط حقوق المواطنة ولا شأن لها بهدم الدولة أو تعطيل عجلة الانتاج إلى آخره من شعارات جوفاء لا تعكس سوى عقلية استبدادية بامتياز. ومن ناحية أخرى فلا يقبل أن يبدي البعض سخرية واضحة بل وشماتة أحيانا من استشهاد جنودنا وأفراد الشرطة في هذه الحادثة أو تلك، لا تبرير أو تفهم لمثل هذه المشاعر الشاذة أبدا.
ثالثا: فض الاشتباك بين الجيش والسياسة، فالمنادون بأبعاد الجيش عن السياسة لا يسعون لإسقاط الجيش ولا يخربون الوطن ولا يريدون للمؤسسة العسكرية مصيرا مماثلا لبعض دول الجوار، بل العكس تماما هو الصحيح، دخول رجال الجيش في لعبة السياسة هو الخطر بعينه لأن السلطة فتنة، والأضواء قاتلة، والسياسة مقامرة كبيرة، من المنطقي أن رجال الجيش لديهم عقلية مختلفة عن المدنيين كونوها عبر سنوات وعقود من تواجدهم داخل المعسكرات في حياة صارمة ليس بها استهتار أو "دلع"، وولوجهم إلى عالم السياسة من ناحية يجعلهم يعالجون الأمور بأساليب أمنية بحتة دون بعد سياسي، وهي الطريقة التي أثبتت فشلا ذريعا في مصر على مدار العقود الماضية، ومن ناحية أخرى يجعلهم عرضة للنقد اللاذع مما يهز من هيبتهم وهيبة المؤسسة أمام المواطنين، وهو أخيرا يكون نافذة لتسييس الجيش وتفتيته إلى أجنحة بينها صراعات وتنافسات وكلها أمور ننأى بجيشنا عن الوقوع فيها.
رابعا: فض الاشتباك بين مكافحة الإرهاب وتصفية الحسابات السياسية، فلا يستطيع أحد عاقل أن ينكر أن مصر تتعرض لعمليات إرهابية مفزعة، بعض هذه العمليات يبدو عشوائيا، لكن البعض الآخر يظل معبرا عن تدبير عال ودعم لوجستي وراءه قوى منظمة، هنا لابد أن نضع النقاط فوق الحروف بلا إفراط ولا تفريط، فيظل الإرهاب إرهابا وأي تبرير أو تعاطف معه تحت أي شعار أو ظروف أو حجج مرفوض، كما أنه لا يجوز توجيه الاتهام إلى هذا الطرف أو ذاك قبل أن تأخذ منظومة العدالة دورتها الكاملة حتى إدانة أو تبرئة المتهمين، مشكلتنا إذا أننا ومع كل عملية إرهابية نتسرع بتسييس القضية للتخلص من خصومنا من هذا الاتجاه أو ذاك بدلا من الوقوف علي المتهمين ومحاكمتهم وتحميل صناع القرار مسؤوليتهم السياسية عن تكرار وقوع مثل هذه الهجمات، فلا ارهابا حاربنا ولا سياسة كسبنا اذا.
خامسا: فض الاشتباك بين الإصلاح والهدم، اذ يحلو للبعض اتهام من ينادي بإصلاح الداخلية أو غيرها، المؤسسات الحكومية العطبة بأنه يريد هدم هذه المؤسسات ومن ثم هدم الدولة، وهنا لنا وقفة، فعلى المؤمنين بثورة يناير والتغير والإصلاح عن حق أن يدركوا أن مصر بلا إصلاح ستظل تدور في حلقات مفرغة من العنف والارهاب وعدم الاستقرار، وفى نفس الوقت فإن هذا الإصلاح لا يعني الهدم التام كما يردد البعض، ففي ظل ثقافة الدولة المركزية، وفى ظل الظروف الإقليمية والداخلية، فالهدم التام لن يؤدي إلى الإصلاح بل قد يؤدي إلى انهيارات تامة في الدولة (لا النظام)، فاتباع منهج إصلاحي أو هيكلي لإعادة ترتيب هذه المؤسسات العطبة والمشاركة بقوة في القمع وانتهاك حقوق الانسان على مدار السنوات الماضية هو وحده من يضمن تحقيق أهداف الثورات على الأقل في الظروف السياسية الحالية.
سادسا: فض الاشتباك بين العدو والخصم والحليف، ففي السياسة والعلاقات الدولية لا حليف دائم ولا عدو دائم، لكنى مثلا لا يمكن أن أتفهم أن يعتبر البعض أن حماس هي العدو وليست إسرائيل! ربما يعتبر النظام المصري (لا الدولة) أن حماس هي خصم سياسي، هذا جائز ومفهوم، أما أن يحرض البعض لاعتبارها هي العدو الذي يجب اجتثاثه وأن إسرائيل هي الصديق الذي يقوم بمهمة التخلص منه هذه فهو اعتبار فاشي وفاقد لأدنى مبادئ واعتبارات الأمن القومي، فضلا عن أنه يعبّر عن خلل فادح في منظومة الاستقبال، فإسرائيل سلطة احتلال وحماس حركة مقاومة قد نختلف أو نتفق معها، ولكن تظل مقاومة ونقطة من أول السطر!
وأخيرا فلابد من فض الاشتباك بين المؤامرة وحقائق العمل السياسي، فهذا التيار الذي يعتبر أن كل حركة أو تصريح أو تلميح هنا أو هناك هو مؤامرة كونية على مصر، لا يفهم تعقيد المشهد ويدفع بقصد أو بدون إلى اتباع سياسات دفاعية محافظة بحجة مواجهة هذه المؤامرة المزعومة، نعم العمل السياسي به مؤامرات، لكن إعطاء المؤامرة وزنها الحقيقي دون إفراط أو مبالغة هو وحده الكفيل بالالتفات لحل مشاكل مصر الداخلية لا العكس.
ندعم دولتنا بكل قوة ونحلم بها في مصاف الدول المتقدمة ونسعى إلى استقرارها وأمنها، ونترحم على جميع شهدائها من الجيش والشرطة والشعب الأعزل، لكن ولتحقيق هذا فإننا نسعى لبناء دولة حرة لا جمهورية خوف، تراعي التعددية والمواطنة وحقوق الانسان والحرية والديموقراطية، معتبرة كل ذلك عناصر في تحقيق الأمن القومي المصري بمعناه الأشمل، وحتما سنصل يوما ما إلى هذا الطريق أو على الأقل هكذا أتمنى.