أحمد عبد ربه يكتب في الاستخبارات المصرية .. "معضلة الأجهزة السيادية!"

نشر
9 دقائق قراءة
تقرير أحمد عبد ربه
Credit: GIANLUIGI GUERCIA/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم  أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

محتوى إعلاني

لا يوجد تعريف علمي محدد -على الأقل في حدود اطلاعي- لمصطلح الأجهزة السيادية، فهل هي الأجهزة الأمنية أم المخابراتية؟ أم أجهزة المعلومات الملحقة بالمؤسسات العسكرية.. إلخ؟، لكن ما تم الاتفاق عليه عرفا في مصر، أن الأجهزة السيادية هي تلك الأجهزة المعنية بجمع وتحليل المعلومات لحماية الوطن وأمنه القومي، وهي بهذا التعريف البسيط تؤدي إذاً دورا وطنيا شريفا، لأن هدفها بالأساس هو حماية مصالح الوطن ولفت نظر صناع القرار لما يتعرض له هذا الوطن من مخاطر أو تهديدات تساعد الأخير في حسن اتخاذ القرار.

محتوى إعلاني

لا تسير الأمور قطعا بهذه البساطة، فمهمة تجميع المعلومات وتحليلها في العالم أجمع، تتطلب قدرا من التخابر وكثيرا من السرية ومزيدا من الاستثناءات، ولأن طبيعة عمل رجال هذه الأجهزة وعقيدتهم هي "الشك" كشعور احترازي لابد من تنميته لدرء المخاطر المحتملة وللاستشعار عن بعد بأي تهديد، فيصبح المواطنون والمؤسسات كافة عرضة أن يكونوا أهدافاً محتملة لعمل هذه الأجهزة وما يعنيه ذلك من احتمال اختراق خصوصيتهم والتضييق عليهم، بل وحتى تهديدهم أو التفاوض معهم حتى يتم التأكد من إن كانت هذه الشكوك في محلها أم لا. لهذا السبب تحديدا أصبحت المهمة الأساسية للدول والمجتمعات الديموقراطية هو الدفع باتجاه التوازن بين إعطاء هذه الأجهزة السلطة والحماية اللازمة للعمل، وبين وضع ضوابط قانونية ومؤسسية لضبط أدائها بما لا ينتج عنه انتهاكات لحقوق وحريات المواطنين المكفولة عادة في الدستور.

رغم هذه الجهود الدستورية والقانونية، إلا أن الأمور لا تسير على ما يرام، إذ أنه من حين لآخر تحدث انتهاكات وخروقات هنا وهناك، وتتحجج الدولة عادة بحالات الخطر التي يهددها كمبرّر ومسوّغ لهذه الانتهاكات. حدث هذا في أعتى الدول ديموقراطية، كالولايات المتحدة على خلفية تفجيرات سبتمبر/أيلول عام 2001 سببت جدلا عميقا داخل هذه المجتمعات، وخاصة بعدما تبنت المؤسسات التشريعية في هذه الدول مشاريع قوانين استثنائية لانتهاك الخصوصية مع مجموعة معايير شكلية وعامة لم تمنع انتقادات واسعة لها ولأهدافها كانت ولاتزال محلا للجدل هنا وهناك.

بالانتقال إلى الحالات العربية، فنجد أن هذه الأجهزة السيادية لعبت أدوارا هامة في مرحلة ما بعد الاستعمار، فمعظم الدول العربية لجأت إلى بناء وتطوير أجهزة استخباراتية وأمنية قوية لتعضيد الحكم والسيطرة الداخلية من ناحية، ولمواجهة الأخطار الخارجية من المحيط الإقليمي والدولي الساعي (ولا يزال) للسيطرة على مقدراتها لأسباب مصلحية بحتة قبل أن تكون حتى أسباب تأمرية، لدرجة أن بعض الدراسات الشهيرة فى مجال الديموقراطية تعزي سبب غياب الأخيرة فى المجتمعات العربية إلى توغل أجهزة المخابرات والأمن فى الشأن الداخلي وصنع القرار. يقابل ذلك فريق آخر يرى أن هذا التوغل ضروري لحماية أمن هذه الدول الخارجة لتوها من براثن الاستعمار ولازالت تقاوم أشكال الأخير الحديثة في السيطرة بأساليب غير تقليدية.

ترددت أكثر من مرة في الحديث عن هذا الموضوع وخصوصا مع التقلبات السياسية والأمنية في الداخل المصري، لكن مجموعة من الأحداث المتلاحقة في الآونة الأخيرة تجعل تأجيل الموضوع أكثر من ذلك غير محتمل، فالمصارحة والمكاشفة واللغة الهادئة الباحثة عن مصلحة الوطن بحق تجعل على كل المهتمين بمصلحة مصر الدولة لا النظام التعرض لأهم ملامح هذه المعضلة بحثا عن حلول ولو مبدئية تسهم في تهدئة الأوضاع بوضع النقاط فوق الحروف بدلا من المداهنات المعتادة تزلفا وقربا من هذه الأجهزة أو الهجوم العشوائي غير المسؤول الذي تختلط فيه الأوراق عادة وتضيع للأبد.

أولا: منذ اندلاع ثورة يناير ويمكن ملاحظة الدور الدفاعي الذي أخدته هذه الأجهزة والتي اعتبرت أن الثورة مهددة لها ولكيانها ولحساباتها وشباكاتها ومصالحها المعقدة، ظهر ذلك في نظرية المؤامرة التي طفت على السطح منذ الشهور الأولى للثورة متهمة الأخيرة بأنها لا تعدو أن تكون مؤامرة على الدولة المصرية سعيا نحو هدمها، ولعل حادث اقتحام مقرات أمن الدولة (الأمن الوطني حاليا)، قد أجج في تقديري هذا الاعتقاد الذي تبناه مسؤولون رسميون لاحقا وتحول من مرحلة التلميح إلى مرحلة التصريح كما نرى الآن.

ثانيا: وصل الأمر ذروته في رأي مع استقالة الدكتور البرادعي نائب رئيس الجمهورية السابق يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة، إذ أن موجة هجوم صريحة على الرجل على لسان إعلاميين وأمنيين سابقين انطلقت بلا هوادة لاتهامه بالعمالة والمشاركة في هدم الدولة (وعلى لسان البعض هدم الاسلام!) ثم تطور بعد ذلك ليطول كل الفاعلين المشاركين في الثورة بداية من الإخوان ومرورا بحركة 6 ابريل/نيسان ثم وصولا باقي شباب الثورة وتياراتها المتنوعة ومعهم أي شخص مازال يؤمن بالثورة ويعبر عن رأيه في هذا الشأن.

ثالثا: وصل الأمر إلى مرحلة لا تطاق مع قيام أحد المنتسبين إلى الإعلام بعرض تسجيلات للبرادعي (قبل توليه المنصب) بادعاء أنها تثبت عمالته لأجهزة مخابراتية دولية، ولا يفوت القارئ أبدا أن مثل هذه التسجيلات لا يمكن أن تكون إلا بعلم هذه الأجهزة وربما بمساعدتها للإعلامي المذكور ولا يحدثنا أحد عن سبق صحفي لأن مثل هذه الأمور لا تكون بمجرد اجتهادات صحفية وحتى لو نجحت الأخيرة مرة أو اثنين في التسجيل فقطعا لن تنجح في الحصول على تسجيل كامل لأكثر من مكالمة في أكثر من مناسبة وليس للبرادعي فقط ولكن لغيره من شباب وشخصيات عامة أخرى منتسبة للثورة.

رابعا: السؤال المنطقي هنا بسيط ولا يرغب أحد في إثارته فضلا طبعا عن الإجابة عليه، إذا كان البرادعي عميلا استخباراتياً على هذه الدرجة من الخطورة، فلماذا سمح للرجل بمنصب نائب رئيس الجمهورية؟ وهو ثاني أرقى وأخطر منصب في الدولة بعد رئيس الدولة، يعلم المشتغلون بالشأن العام أن مجرد ترشحك لمنصب عام، حتى لو كان مجرد رئاسة أحد قصور الثقافة أو مراكز الشباب (فما بالك بنائب رئيس الجمهورية)، يتطلب تحريات أمنية دقيقة، وهو ما يعني أننا أمام احتمالين كلاهما خطير، إما أن هناك إهمالاً جسيماً أو أن هناك تأمر رهيب وهنا لابد من المحاسبة.

خامسا: اذا افترضنا أن وصول شخص بخطورة وعمالة البرادعي (مجرد فرض لأني قطعا لا أؤمن بذلك)، كان خطأ أو سهو، فماذا عن وائل غنيم الذي حرص رجال المجلس العسكري السابق (وبعضهم مازال في منصبه) على لقائه والإشادة به وبوطنيته ثم فجأة تحول هو الآخر إلى جاسوس وعميل؟ ماذا عن أحمد ماهر الذي قابل رئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور بعد ٣٠ يونيو/حزيران؟ علامات استفهام كثيرة بلا إجابات!

سادسا: إذا قيل أن اتهاما رسميا لم يصدر بعد في حق هؤلاء (أحمد ماهر محبوس للتظاهر بدون تصريح وليس للعمالة بالمناسبة)، فلماذا تسكت الأجهزة الأمنية على أبواق بعض الإعلامين وهي تذيع هذه التسجيلات والاتهامات ليل نهار؟ لماذا لا توضح لنا الأجهزة كيف تسربت هذه المكالمات؟ ولماذا لم يتم التعامل في حينه طالما أن الأدلة موجودة؟ والأهم طالما أن هذه الاتهامات تصدر حتى من بعض الأمنيين السابقين الذي يدعون ليل نهار أنهم خبراء استراتيجيين على صلة بالأجهزة، فلماذا لا توضح الأجهزة موقفها، ألا ترى أن هذه الاتهامات موجهة لها قبل أن تكون موجهة إلى المتهمين؟

أسئلة مازالت بلا إجابات، تدفع البعض بالتطرف في اتجاه الاعتقاد أن حال مصر لن ينصلح إلا بهدم هذه الأجهزة وهو أمر خطير لا أقبل به لاعتبارات اتصورها وطنية بحتة، ولكني أيضا لن أندفع متزلفا لها وموافقا أو ساكتا على ما يحدث بدعوى حماية مصر! مصر لن ينصلح حالها إلا بإصلاح هذه الأجهزة، إصلاح يعني تغييراً في العقيدة، يعني إيقاف التسريبات واللجوء إلى القضاء إن كانت الاتهامات جدية حقا، أما استمرار هذا الهزل فهو عين التهديد لمصر وأمنها، فهل تدركون ذلك وتحلون هذه المعضلة قبل فوات الأوان؟

نشر
محتوى إعلاني