رأي.. القومية العربية.. هوية أم مواطنة؟
هذا المقال بقلم محمد محمود الإمام، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
إذا كانت العروبة قد وجدت لنفسها مكانا في "الوطن العربي" نتيجة التجاور الجغرافي والتراكم التاريخي اللذين ساعدا على توطيد العلاقات الاجتماعية والروابط الثقافية التي غذتها اللغة والإسلام ودعمتها الهجرات المتتالية عبر حدود البلدان والولايات، ورعتها الخلافات الإسلامية التي توالت منذ فجر الإسلام، فإنها اعتبرت هوية مشتركة، بينما تركت شؤون الدنيا والدين إلى كل ولاية، واكتفى الخليفة بتعيين ولاة يوافونه بالخراج والجزية، في مرحلة سادت فيها الأنشطة الأولية المتعاملة مع الموارد الطبيعية على النشاط الاقتصادي.
***
وقد نشأت الرغبة في التمسك بالهوية العربية في أواخر القرن التاسع عشر كرفض لمحاولة الإمبراطورية العثمانية فرض عملية التتريك على البلدان العربية -- محمد محمود الإمام التي بسطت نفوذها عليها. وتعددت الحركات المنادية بهذا المطلب، وعقدت المؤتمر العربي الأول في 1913 بباريس. ثم تناول الأمر مفكرون مرموقون مثل ساطع الحصري بالتحليل العميق. ولكن البريطانيين استغلوها خلال الحرب العالمية لتجنب محاربة الحلفاء تركيا فتدعو المسلمين إلى الجهاد ضدهم، فوعدوا الحسين بن على شريف مكة وحامي الديار المقدسة الإسلامية بمساعدته على إنشاء دولة عربية كبرى تنتزع الخلافة للعرب من العثمانيين، فانطلقت الثورة في 1916، في نفس اللحظة التي وقّع البريطانيون والفرنسيون اتفاقية سايكس/ بيكو بتقاسم الولايات المحررة فيما بينهم. ولم يسمحوا للشريف إلا بمملكة تضم شرق الأردن والحجاز. وصدر وعد بلفور في 1917 بمنح فلسطين وطنا قوميا لليهود. فتحولت المنطقة إلى دويلات تتصارع للحصول على استقلالها، مما كرس النزعة القطرية تحت لواء العروبة كهوية. وفي 1943 أعلن مجلس العموم البريطاني الترحيب بسعي العرب إلى "تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية"، فتولت حكومة مصر الوفدية إنشاء جامعة الدول العربية على غرار عصبة الأمم التي أقيمت في 1920، وسميت كلتاهما بالإنجليزية: League.
وعقب الحرب العالمية الثانية تحولت القوى الاستعمارية إلى الاستعاضة عن الاحتلال الصريح بآليات تبعية سياسية واقتصادية -- محمد محمود الإمام. وتولت الشركات عابرة القوميات دور جيوش الاحتلال. ومنها شركات البترول التي تحتكر التنقيب والاستخراج والتصدير مع اقتسام الإنتاج، فتؤدي بذلك دورا استعماريا رباعيا: الاستمرار في نهب ثروات العالم الثالث بتكلفة سياسية وعسكرية أقل؛ وتوسع الإنتاج لنطاق يتجاوز حاجة الدول المنتجة وفرص تصديره إلى دول نامية مجاورة؛ وإضعاف الحافز إلى الدخول في أنشطة أخرى تستوعب أيدٍ عاملة لم تستفد من النشاط النفطي؛ وتغذية النزعة الاستهلاكية البذخية المرتبطة بالدخول الريعية، وهو ما يزيد من توجهها إلى، وروابطها مع، العالم الخارجي، وبوجه خاص الدول المتقدمة الاستعمارية. وعندما أمّم مصدق النفط الإيراني في 1951 رغم أنف شاه إيران، استعان البريطانيون بالمخابرات الأمريكية لتدبير مظاهرات لإسقاطه في 1954، وتولى زاهدي إلغاء التأميم. وانضمت إيران مع باكستان وتركيا إلى حلف بغداد الرامي إلى منع السوفيت من النفاذ إلى منطقة تتواجد بها مصالح اقتصادية وإستراتيجية حيوية في سياق الحرب الباردة، تحمس له نوري السعيد ورفضه عبدالناصر. وبعد انسحاب العراق منه عقب ثورة 14 يوليو 1958 تحول إلى حلف السنتو. من جهة أخرى طلبت اللجنة السياسية للجامعة العربية إجراء دراسة لإقامة وحدة اقتصادية عربية على مراحل بأقصى سرعة ممكنة، خوفا من محاولات أوروبا بناء سوقها المشتركة فتغلق أسواقها أمام صادراتها، ومحاولة الأمم المتحدة إقامة لجنة اقتصادية إقليمية تقحم إسرائيل في تجمع عربي.
وعقب قيام ثورة يوليو اعتمد عبدالناصر منهج التخطيط القومي لتنمية مستقلة متكاملة، عمادها التصنيع الذي يزوده السد العالي بالطاقة الكهربائية بالتوازي مع توفير المياه لتعزيز القطاع الزراعي، ليكون مشروعا قوميا بمعنى الكلمة. وحتى لا تنتشر عدوى التصنيع بين الدول حديثة الاستقلال، اتُّخِذ رفض مصر الانضمام إلى الحلف ذريعة لرفض تمويل السد العالي بغرض تضييق الخناق على التصنيع. ففجّر عبدالناصر ثورته الثانية في وجه الاستعمار الحديث، بقراره في 26 يوليو 1956 بتأميم قناة السويس. فلجأ الاستعماريون إلى عدوان 1956 الثلاثي، الذي شاركت فيه بريطانيا خوفا من تحكم النظام المصري المتحرر في شريان حيوي لانتعاش اقتصادها، وشاركت فرنسا عقابا لمصر على مساندتها لثورة الجزائر. وفتح العدوان أذهان العرب على مخاطر الاستعمار الجديد، وانضم النفط العربي إلى الصراع. فقُطعت أنابيب النفط بين كركوك وبانياس، عقابا للنظام العراقي الرجعي، وأبلغ عبدالله الطريقي، وزير النفط السعودي بريطانيا وفرنسا قرار الملك سعود بإيقاف إمداد بريطانيا بالنفط، فكانت ضربة موجعة. وتم إنجاز مسودة اتفاقية الوحدة الاقتصادية بعد التغلب على مماطلات وخلافات بين الدول أعضاء الجامعة.
***
وأطلقت الأحداث السابقة تيارين متضادتين في العلاقات العربية -- محمد محمود الإمام. الأول الشعور بأن قوة العرب هي في تعاونهم على تعزيز مصالحهم بتوظيف ما لدى كل من أوراق القوة بشكل متكامل في مواجهة العالم الخارجي، تحت راية القومية العربية واعتزاز بالانتماء للوطن العربي الكبير. وبرزت أهمية النفط فأطلق الطريقي مقولته "نفط العرب للعرب". ونظمت الجامعة العربية مؤتمرات بترولية، بينما سعى الطريقي مع نظيره الفنزويلي إلى إقامة الأوبك لتأمين التعاون العربي مع دول نامية لتصويب العلاقات الدولية مع القوى المهيمنة على العالم. وفي هذا المناخ قامت أول دولة وحدة بين مصر وسوريا، وأنهت ثورة 14 يوليو 1958 النظام الممالئ للاستعمار في العراق.
أما الثاني فغذته رغبة بعض ولاة الأمر العرب في استغلال مصادر القوة إزاء باقي العالم، بما فيه الأشقاء العرب، وتنامت هذه النزعة فحولت الوطن العربي إلى مجموعات متنافرة. فعندما قامت ثورة 1958 أوقف عبد الكريم قاسم التصديق على اتفاقية الوحدة الاقتصادية، وعرض بديلا وحدة عربية فيدرالية لم تتوفر شروط نجاحها. وطبق قانون الاستعمار على الكويت بإعلان ضمها كولاية بعد استقلالها في 1961، ومحاولتها إقامة حكمها على أسس دستورية وتمثيل نيابي، فتصدت له مصر وبريطانيا.
***
الأسوأ أن صدام حسين عندما فشل في تحقيق انتصار كانت دول الخليج تمده بالمال لتحقيقه على إيران الخومينية التي استعانت بعلمائها المعارضين، خاض حرب الخليج الثانية في مثل هذه الأيام من 1990 فاحتل الكويت وحاول التوغل في السعودية طمعا في الأرض واستهانة بالبشر، فقضى على مفهوم المواطنة العربية، وحمل الدول النفطية إلى الاحتماء بالمجتمع الدولي وتنظيم علاقاتها العربية من منطلق المحافظة على مصدر ثروتها الذي لا يوجد له بديل يحقق لها المحافظة على إنجازاتها في التنمية البشرية المستدامة. يذكر أن الكويت بعد تخلصها من حماقة قاسم كانت هي التي مكنت اتفاقية الوحدة الاقتصادية من النفاذ، ليس رغبة في وحدة لا تشعر بجدواها لها، وإنما لتعزز بعضويتها في مجلس الوحدة وجودها كدولة مستقلة، ثم ظلت عازفة عن تنفيذ قراراته إلى أن انسحبت في 2000. وحملت في السبعينات، باختيار شعبي، لواء تقديم المساعدات المالية لدول العجز بصندوق أنشأته لكسب مؤازرة دول تحتاج مساعدتها، وقصر التكامل العربي على عمل مشترك قوامه مشروعات مشتركة، وهو ما أدى إلى إجهاض إستراتيجية وخطة العمل المشترك -- محمد محمود الإمام لقمة عمان 1980، وقيام مجلس التعاون الخليجي. وهكذا أصبحت العروبة مجرد صفة جغرافية عرقية تحتاج إلى من يعيد إحيائها لكي تستعيد وجودها كهوية -- محمد محمود الإمام جديرة بالاحترام .. ناهيك عن جدارتها بالمواطنة.