رأي حول العلم والسياسة في مصر
هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
انشغل بعض المعلقين خلال الأسبوع الماضي بقيام الرئيس عبد الفتاح السيسي بتشكيل أمانة لمجلس علماء مصر، وإصداره قرارا جمهوريا باختصاصات هذا المجلس، وقد رحبوا بهذه الخطوة، واعتبروها دليلا على عزم الرئيس أن يستفيد بأفكار علماء مصر الذين اختارهم لعضوية هذا المجلس فيما يتخذ من سياسات، وما تزمع الحكومة تنفيذه من مشروعات التنمية.
والواقع أن هناك تاريخ لمحاولة الحكومة الإستفادة من جهود علماء مصر في مشروعات التنمية وفي الإشارة على الحكومة بما ينبغي أن تتخذ من سياسات أو بتصويب بعض هذه السياسات، ورغم أني لم أكن واحدا ممن تطلب منه الحكومة، أي حكومة في مصر، المشورة، إلا أني مررت بتجربة المبادرة بتقديم دراسات علمية لحكومات مصر في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ليس سعيا لتولي منصب إداري أو سياسي، ولكن لأني كنت مسئولا عن أحد المراكز البحثية في جامعة القاهرة، وإحدى الوظائف الأساسية لمثل هذه المراكز ليس فقط تبصير الرأي العام بنتائج سياسات الدولة، ولكن أيضا تقديم النصح لصانع القرار على أسس علمية تراعي أولا وأخيرا الصالح العام. وقد كانت لي تجربة محددة مع إثنين من رؤساء وزارات مصر في ظل الرئيس الأسبق.
كانت التجربة الأولى مع حكومة الدكتور كمال الجنزوري وتحديدا فيما يتعلق بمشروع تنمية جنوب مصر المعروف بمشروع توشكي. وقد أخبرني الدكتور علي الدين هلال الذي كان عميدا لكلية الإقتصاد وقتها في سنة 1998 أنه إلتقى بالدكتور الجنزوري الذي طلب منه أن تعد كلية الإقتصاد دراسة عن هذا المشروع، ولما كنت مديرا للمركز البحثي المؤهل للقيام بهذه الدراسة لأن وظيفة ذلك المركز بحسب إسمه- مركز دراسات وبحوث الدول النامية- هي دراسة قضايا التنمية بكافة أبعادها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية، فقد وقع الإختيار عليه للإضطلاع بهذه الدراسة. ولما كانت المعلومات المتوافرة عن هذا المشروع شحيحة للغاية فقد طلبت من عميد الكلية أن يسعى للحصول من رئيس الوزراء على ما يتوافر لدى الدولة من بيانات أو دراسات تكون أساسا لما يمكن أن يقوم به المركز. وبالفعل اتصل عميد الكلية بمكتب رئيس الوزراء الذي استجاب على الفور وأرسل له أربع مجلدات ضخمة تحمل كلها العنوان الرسمي للمشروع، وهو تنمية جنوب الوادي، ولكن فرحي بالحصول على المجلدات الأربع لم يدم طويلا، بل حلت محله دهشة كبرى، فالمقصود في هذه المجلدات بجنوب الوادي هو بالفعل جنوب الوادي بالمعنى الجغرافي أى محافظات سوهاج وقنا وأسوان، ولكن ليس فيه كلمة واحدة عن غرب وجنوب غرب الصحراء الغربية وهي المنطقة المقصودة بمشروع توشكى. وتساءلت مع زملائي كيف تقدم الدولة على مثل هذا المشروع الطموح دون أن تتوافر لها عنه دراسة واحدة؟، ودون أن يعرف مكتب رئيس الوزراء الفارق بين تنمية جنوب الصعيد وتنمية غرب وجنوب غرب الصحراء الغربية؟.
***
تغلبنا على الدهشة الممزوجة بالسخرية وقررنا أن نبدأ الدراسة وفقا للخطوات العلمية المعهودة، جلسات استماع أولا مع أفضل خبراء مصر في قضية المياه، ثم نخطط بعدها للمشروع البحثي. وبالفعل عقدنا الجلسة الأولى وتحدث فيها المرحوم الدكتور رشدي سعيد صاحب الدراسة الموسوعية عن نهر النيل الذي كان معارضا على طول الخط لهذا المشروع مفضلا تكثيف استخدام المياه في وادي النيل والدلتا بحيث يرتفع العائد من كل متر مكعب من المياه أضعافا مضاعفة بتغيير التركيب المحصولي وترشيد استخدام مياه الري. وكان المتحدث في الجلسة التالية هو رئيس المركز القومي لدراسات المياه، وهو عالم فاضل ذو شهرة عالمية ويتسم بالنزاهة والشجاعة، والذي شرح لنا المشروع، ولكنه قال لنا إنه مشروع غير تقليدي، ولما سأله الحضور ما الذي يقصده بالمشروع غير التقليدي، قال إنه في حالة المشروعات التقليدية تسبق الدراسات عملية صنع القرار، أما في مشروع توشكى غير التقليدي، فالقرار يتخذ أولا ثم تعقبه الدراسات بعد ذلك !!.
وقد أدار المركز مشروعا بحثيا حول هذا الموضوع وعقد مؤتمرا لعرض نتائج المساهمات العديدة في هذا المشروع الذي شارك فيه أساتذة وخبراء في كافة المجالات التى يغطيها مشروع توشكى وكان من بينهم خبراء في المياه والتربة والتركيبة المحصولية والثروة المعدنية والإجتماع، وكان ختام المؤتمر جلسة شارك فيها رئيس البنك الأهلي وواحد من أهم رجال الأعمال في مصر في ذلك الوقت. لاحظوا أن تمويل المشروع كان يفترض أن تساهم الدولة بنفقة البنية الأساسية بما يعادل خمس تكلفة المشروع على أن يساهم القطاع الخاص المصري بأربعة أخماس الإستثمارات المطلوبة، وكان رأي الإثنين أن الأمل معقود على استقدام استثمارات أجنبية!! بعبارة أخرى القطاع الخاص في مصر ليس متحمسا للمشاركة في هذا المشروع. وقد نشرنا كتاب المؤتمر، وكان به تحفظات عديدة على المشروع من حيث مدى توافر المياه الجوفية لفترة طويلة، وصعوبة التربة وقسوة المناخ، والتقدير المسرف في التفاؤل لعدد المواطنين الذين يمكن أن يجتذبهم المشروع وقدر بخمسة ملايين يعيشون في سبع عشرة مدينة والقرى المحيطة بها. وقد ردت وزارة الزراعة بطريقة غير مباشرة على هذه الإنتقادات، ولكني لم أندهش عندما توقف العمل في المشروع في عهد مبارك فقد أثبت تعثر المشروع صحة الإنتقادات التى وجهت له في مشروعنا البحثي.
والتجربة الثانية تتعلق برد فعل رئيس وزراء سابق في مصر على التقرير الدوري الذى كان يصدره المركز تحت عنوان تقرير التنمية الشاملة في مصر، والذي انتقدت مقدمته وفصوله في عدده الثاني ما كانت تنشره الصحافة عن إنجازات التنمية في مصر. وقد نشرت جريدة الحياة مقدمة التقرير التي كنت كتبتها ولخصت فيها هذه الإنتقادات. ثار رئيس الوزراء على التقرير، وأبلغ وزير التعليم العالي في ذلك الوقت وهو الدكتور مفيد شهاب والذي نقل هذه الرسالة إلى رئيس جامعة القاهرة وأضاف أن تحليل التقرير غير صحيح وأن بياناته ليست دقيقة. وعندما أخبرني بذلك رئيس الجامعة أبلغته باستعدادي للجلوس مع من يختاره رئيس الوزراء لمناقشة ما يعترض عليه في التقرير. وكان من المفروض أن ألتقي بوزير التخطيط لمناقشة ما جاء في التقرير. لم يعقد هذا الإجتماع لسبب بسيط هو أن الأرقام التي استندنا إليها كانت هي نفس الأرقام الحكومية ولكننا استخرجنا منها ما كانت الحكومة لا تود الإفصاح عنه -- مصطفى كامل السيد.
الإستنتاج الذي أخرج به من هذه التجربة هو أن حكومات مصر ليست جادة في الإستماع لصوت علمي مستقل، وأنها تريد من مراكز الأبحاث أن تسبح بحمدها وأن تشيد بما تدعيه من إنجازاتها -- مصطفى كامل السيد، وإذا كانت الحكومة تسعى حقا لمعرفة رأي علماء مصر فيما تفعل، فهي لا تحتاج للجوء لمن يعيش منهم خارج مصر وله مشاغله واهتماماته وليس لديه الوقت ليستغرق في كتابة تقارير عن المشروعات القومية الكبرى، هذا إذا كان متخصصا اصلا في هذه المسائل. أمامنا تجربة المجالس القومية المتخصصة التى نص عليها دستور 1971 ولا يوجد لها ذكر في دستوري 2012 أو 2014، وتغطي تقاريرها الجادة والرصينة العديد من مجالات السياسة العامة في مصر، وهناك في أكاديمية البحث العلمي والجامعات المصرية علماء وأساتذة يحظون بالتقدير الدولي إذا كان ذلك هو معيار التقييم، وفضلوا العمل في مصر رغم كل صعوبات العمل الأكاديمي وليست كلها صعوبات مادية.
***
الدولة في مصر اتخذت قرارها بالفعل فيما يتعلق بما يسمى المشروعات القومية الكبرى دون أن تستشير أيا من العديد من المؤسسات العلمية التى تزخر بها مصر -- مصطفى كامل السيد، وكان يمكن أن يكون لها رأي فيما يثار حول هذه المشروعات من تساؤلات، ولكنها تحب أن تسمع صدى صوتها، أو من يشيد بحكمة كل ما تتخذه من قرارات.