إيمان هاشم تكتب... التحرش عرض وليس مرض
إيمان هاشم، مصرية خريجة طب ومدونة لمناهضة العنف الأسري ضد المرأة وتعمل فى مجال التوعية بالصحة الإنجابية
(CNN) -- يكثر الحديث مؤخراً عن التحرش كظاهرة إجتماعية "جديدة" في عالمنا، ويتبارى ضيوف البرامج الحوارية في التلفاز وكتاب الرأي في إلقاء اللوم تارة على ملابس المرأة التي تتعرض للتحرش، وتارة على المواقع الإباحية بسبب عدم قدرة الشباب على الزواج، ما يؤدي إلى معاناتهم هرمونياً "فجأة" في شوارع المدن.
وينجرف الكثيرون وراء هذه الأسباب الواهية متناسين كل الحقائق، من انتشار التحرش بالمتزوجين، وتعرض كثير من المنقبات للتحرش في الشوارع والمواصلات العامة، بل ويتناسون الأخطر وهو دفاع بعض النساء عن المتحرش وتقديم مبرر للظلم الواقع عليه ولومه على ما لا يستطيع السيطرة عليه.
ويظهر القصور في مناقشة التحرش جلياً في حصره بالشارع والمواصلات. فما يحدث في الجامعة والمدرسة والعمل والنادي الرياضي أيضاً تحرش، ولكن نظراً لكونه أمراً عادياً جداً في ذهن الجميع، فأصبح أشبه بالطقس اليومي، فمثلما تشرق الشمس وتمطر السماء ينظر الرجل إلى جسد زميلته في العمل ويتفحصه ويهمس بتعليق ساخر في أذن زميل آخر، يضحك الإثنان في انتصار لخفة ظلهما ويعودان إلى العمل بكل سلاسة.
كل هذا لأن التحرش بدأ وترعرع وتداخل في هوية الكل … في المنزل..
نعم! كل هذا بدأ في المنزل. وأغلب بيوتنا عبارة عن ورشة عمل متفانية للتدريب المنهجي على التحرش.
ماذا تتوقع من ابنك بعد أن يراك تهين أمه بكل أريحية ودون إعتذار لأن "سكر الشاي زيادة" أو "الأكل مالح" أو أي شىء آخر مما "يظن" الجميع أنه واجبها؟
دعني أساعد مخيلتك. يدرك الطفل لما حوله قبل قدرته على الحديث، ويختزن الصور والذكريات ويستحدثها كخبرات في أوقات وأشكال مختلفة. في مخيلة رضيعك وجعك الغاضب العابس غير الراضي في غالبية الوقت، ووجه أمه الحزين المكسور الباكي أحياناً … هذه هي الصورة التي تختزنها في ذهن رضيعك عنك. أنت كائن محتد وعالي الصوت، كثير العبوس والشكوى. لا تضحك مع أمه إلا نادراً، يبدو على تعبيرات جسدك أثناء معاملتها عدم التقدير والامتهان، ولا يبدو عليها الاعتراض.
يكبر الأطفال لملاحظة الفرق في التوقعات بين الإبن والإبنة، والفرق في الواجبات، وأحياناً الفرق في المعاملة والتقدير.
تقبل ثقافتنا، بل وتحث، على فرض التواصل الجسدي على الأطفال، ما يربيهم على أن أجسادهم ليس ملكهم، بل هي ساحة عامة لكل من أراد أن يفعل ما يشاء.
في بيوتنا، تتعرض الكثير من الفتيات لبدايات التحرش مع سن البلوغ، حين يبدأ جميع أفراد العائلة في معاملتها كقنبلة موقوتة على الجميع فعل ما يستطيع لإبطال معفولها. من الامتعاض من مفاتن جسدها التي بدأت في الظهور، إلى الطلب منها بتغطيتها "البسي حاجة طويلة وداري فخادك دي"، وصولاً إلى التوقعات بتغيير حياتها كلياً بحسب ما يريد الأشخاص من حولها.
لا للعب ولا للضحك بصوت عال ولا للخروج ولا للعوم ولا للغناء ولا للاعتناء بشكلك … كل هذه أشياء قد تبرز هذه الحقيقة المرة التي يجب عليك قبل الجميع أن تخفيها وهي "أنوثتك" رغم أنكِ أنتِ المسؤولة الأولى عنها.
وبالطبع يبدأ الحديث عن الحجاب، سواء رغبة فيه أو ضده، فهو ليس أمر خاص بها وحدها، بل هو قرار عائلي يتشارك فيه الأب والأم والأخ والخال وأحياناً زوج الأخت والجار.
وطبعاً تتشبع خلاياها بالمفهوم "الأعوج" لشرف العائلة الذي يتلخص في جسدها. فشرفها هذا لأبيها وأخيها وعمها وخالها ثم زوجها.
ماذا تتوقعون؟؟ هل من الممكن أن يتوقع أي إنسان عاقل أن تخرج هذه الإنسانة إلى الحياة بكامل الإدراك أن جسدها لها وحدها؟ وأن تغضب وتثور حين تتعرض لمحاولات اللمس في المواصلات العامة والتعليقات المهينة في العمل وماشابه؟
ماذا تتوقعون ممن يتربى في منزل يسمح إليه باتخاذ القرار بشأن أخته وملبسها وتصرفاتها؟ هل بالفعل يمكن أن نتخيل أنه قد يقتنع بأن جسد الأنثى التي تسير في الشارع لها وحدها؟
إن مفاهيم "حرمة الجسد" و"الكرامة الإنسانية" مشوهة لدرجة يستحيل معها مناقشة ظاهرة كالتحرش دون النظر بكل صدق إلى بيوتنا..
تعلمت في الطب، أن تراجع العرض ليس شفاء، وأنه على الطبيب أن يتفحص ما هو سبب العرض الأصلي، لأن التعامل مع هذا السبب هو العلاج الحقيقي.
فإن كنا نريد أن نريح ضمائرنا ونملأ صفحات الجرائد بحديث فارغ دون جدوى، دعونا نكمل الحديث عن التحرش في الشوارع، أما إن كنا نريد مواجهةً حقيقيةً فقد حان الوقت للتعامل مع العنف الأسري ضد المرأة بكل أشكاله كناقوس خطر.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبته ولا يعبر بالضرورة عن رأي CNN