واقع الإعلام المصري .. انتبهوا أيها السادة!!
هذا المقال كتبه، محمد عبدالمنعم الشاذلي، عضو المجلس المصري للعلاقات الخارجية،وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
(CNN)-- دخلت مصر عصر الحداثة والتنوير في أوائل القرن التاسع عشر وكانت أبرز أدواتها في ذلك الإعلام منذ أن أدخل محمد على المطبعة وأصدر جريدة الوقائع. ثم تتابع صدور الصحف التنويرية مثل الرسالة والهلال والأهرام التي استعانت بأبرز كتاب ومفكري العصر محمد حسن الزيات وطه حسين والعقاد فصارت الصحف المصرية كعبة يصبو إليها كل من سعى للعلم والتنوير. ثم جاء دور الإذاعة ثم التليفزيون وصارت منظومة الإعلام المصري تقدم الخبر إضافة إلى جرعة ثقافية وترفيهية جميلة وجذابة.
وساعد ذلك الإعلام المصري على الحفاظ على جمهوره العربي في أقصى لحظات الخلاف السياسي وعندما وقع إعلام مصر في فخ المبالغة والتهويل والإساءات الشخصية للزعامات العربية فمن نفر من هذا الاتجاه ظل منجذبا إلى راديو مصر من أجل البرامج الثقافية والترفيهية الرائعة مثل لغتنا الجميلة لطه حسين وغواص في بحر النغم لعمار الشريعي وروائع المسرح العالمي التي قدمها البرنامج الثاني فضلا عن الدراما الإذاعية التي قدمت أروع إنتاج أدباء مصر في مسلسلات رائعة. فكان الإعلام المصري كالمطبخ الذى يقدم وجبة شهية غنية بجميع العناصر الغنائية والمتابع للإعلام المصري الذى يقارن بين ما كان وما صار لابد أن يصاب بغصة شديدة ويشعر بقلق على مستقبل المواطن الذى يشكله الإعلام وصورة مصر ومكانتها لدى الغير.
ولعل أول السلبيات المرصودة هو تدنى اللغة واتجاه بعض الصحف إلى استخدام العامية في الكتابة وخلافي هنا ليس عداءا أو نفورا من العامية فإمارة الشعر لم تثن أحمد شوقي عن كتابة «النيل نجاشى» ومسرحية «الست هدى» بالعامية ولكن خلافي هو مع من يشوهون العامية بألفاظ فجة وممجوجة لم نر مثلا لها في روائع صلاح جاهين الزجلية والغنائية التي أطربتنا وأسعدتنا.
والأمر الثاني هو اختلال عناصر الوجبة الإعلانية فالإعلام كالغذاء إذا اختلت موازين عناصره أصبح ضارا بالصحة والبدن ويمكن القول أنه كما يوجد في الغذاء كما يقولون بالإنجليزية Junk Food فإنه أيضا يوجد فى الإعلام Junk Media ولعل من إبراز عناصر الخلل في موازين الجرعة الإعلامية ما حدث مؤخرا من ضجة واحتجاجات بعد مطالبة البعض بإلغاء مسابقة أعلنت عنها أحد القنوات الفضائية واسعة الانتشار في الرقص الشرقي وبين الصمت التام وانعدام رد الفعل تجاه إلغاء بث قناة المنارة من باقة قنوات النيل الرسمية وهى القناة الوحيدة المخصصة للبحث العلمي والتكنولوجيا رغم وجود عدد من القنوات العربية المخصصة للرقص الشرقي ولا توجد سوى قناة المنارة مخصصة للبحث العلمي، ولو نظرنا إلى الميزانية المخصصة لقناة البحث العلمي وتلك المخصصة لمسابقة الرقص الشرقي لوجدنا عجبا.
سكتنا على إلغاء قناة المنارة كما سكتنا على إلغاء باب أخبار العلم بعد وفاة صلاح جلال وسكتنا عن إلغاء برنامج عالم البحار الذى قدمه يوسف جوهر وإلغاء برنامج عصر الفضاء الذى قدمه المهندس سعد شعبان وبرنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفى محمود والبرنامج العلمي الجميل الذى قدمه الدكتور يوسف مظهر فانتهى الإعلام العلمي من حياتنا، وكانت النتيجة أن الإنجاز العلمي الرائع الذى حققته الهند بإدخال مركبة فضاء إلى مدار المريخ منذ أول محاولة وهو أمر لم تحققه الولايات المتحدة ولا روسيا لم يحظ إلا بأربعة أسطر في وسائل الإعلام.
لعل من أكثر الأقوال تشخيصا لحالة الإعلام ما قاله أحد ضيوف واحد من البرامج الرزينة إن المشكلة تكمن في أن الإعلام صار تابعا للإعلان فسيطر الدافع التجاري على الإعلام. ويكفى للتدليل على ذلك مشاهدة إعلانات الأفلام المقرر عرضها في عيد الأضحى والتي تدور كلها حول راقصات يرقصن رقصات لا يمكن وصفها إلا بالفجاجة والبذاءة على أنغام أغاني شعبية لا تقل عنها إسفافا.
البرامج الرياضية أصبحت برامج كروية لاستئثار كرة القدم بجل اهتمامها وأصبح المشاهد يعرف اسم أصغر لاعب في فرق مصر وأوروبا بينما لا يعرف أحد أسماء أبطال مصر في ألعاب القوى والسباحة أو أرقامهم القياسية وتحولت البرامج الرياضية إلى ساحة للتلاسن وتبادل الاتهامات بين رؤساء النوادي والاتحادات الرياضية واللاعبين والمدربين.
أما ثالثة الآثافي فهي البرامج الحوارية أو ما يطلق عليها Talk Show التي يتبارى مقدميها في استثارة المشاهد والتهجم على ضيوفهم والخروج عن حرفة الإعلامي المفروض حياديته، والخروج على مظهر ووقار المهنة. فنجد مذيعين ومذيعات حاصلين على أعلى الشاهدات الاكاديمية لا يتورعون عن الرقص مع ضيوفهم ولكن ويلا لهذا الضيف إذا أخذ موقفا معاكسا فنصيبه التطاول والتجرع، ثم ما لبث الموقف المعاكس أن اختفى إذا أحجم الضيوف المعاكسون عن الظهور.
ولم يكتف مقدموا البرامج بذلك بل راحوا يجرحون الدول الصديقة والكبرى دون مراعاة للحرفية واللياقة أو حتى الأدب.
كانت النتيجة أن فقدت مصر ريادتها الإعلامية وأصبحت تشكو وتعانى من منافسة قناة الجزيرة القطرية. وولت أيام كان مقال في الأهرام أو برنامج في صوت العرب يكفى لهز أركان أي دولة في المنطقة. ويمكن القول أن صوت العرب كان له دورا كبيرا في إسقاط حلف بغداد ومشروع ايزنهاور ومن ثم كانت الإذاعة المصرية من الأهداف المرصودة في الاعتداء الثلاثي عام 56. لعلى أكرر هنا عنوان فيلم مصري ظهر في الثمانينيات وأقول «انتبهوا أيها السادة» إعلام مصر في خطر، صوت مصر في خطر عقل ووجدان مصر في خطر.
لقد قدم الإعلامي المصري في فترة أجمل وأكمل ما في مصر ولعله كان مبالغا في ذلك بإغفال السلبيات ولكننا الآن أصبحنا نقدم أقبح وأبشع ما في مصر بكثير من المبالغة وحرص غريب على تشويه ايجابيات الماضي فأصبح المصري في الدراما التي نقدمها إما بلطجي فج أو مهرج أهطل أو مرتشى فاسد.
لعله قد آن الأوان لتحرير الإعلام من سطوة الإعلان وأن نعيد التوازن إلى إعلامنا بمكوناته العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية والترفيهية، ونعيد الوقار والرزانة إلى لغة خطابنا الإعلامي قبل أن يؤثر الانحدار الإعلامي على مكانة الإعلام المصري بل على مكانة مصر ذاتها إقليميا ودوليا.
هذا المقال كتبه، محمد عبدالمنعم الشاذلي، عضو المجلس المصري للعلاقات الخارجية، وهو يعبر عن رأيه ولا يعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.