محمد العجاتي يكتب عن.. عجز الخيال.. وخيال العجز

نشر
10 دقائق قراءة
Credit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم محمد العجاتى، مدير منتدى البدائل العربي للدراسات، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

(CNN)-- في منتصف الثمانينيات أصدر يوسف إدريس كتابا بعنوان "فقر الفكر وفكر الفقر" والذي اعتبره مشروعه الأساسي لمدة ثلاث سنوات، فمن خلال تجميع مجموعة من مقالاته خلال هذه السنوات يوضح الأديب العظيم كيف أن الأفكار المتحجرة والرجعية غير قابلة على النهوض بالأمم وتطويرها من جانب، وكيف أن هذا الفقر يولد الفكر الخاص به الذي يتصالح ويبرر الجمود والتخلف بأشكال متعددة قد تبدو متنافرة أحيانا، إلا أنها في الحقيقة تصب في نفس الاتجاه، اتجاه يبرر الفقر ببساطه لأنه لا يستطع مجابهته، ليدخل المجتمع في حلقة مفرغة ما بين الفكر الذي يؤدي إلى مزيد من الفقر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وما يولده هذا الفقر من أفكار رجعية وجامدة تعيد إنتاج هذه الوضعية، وقد وصف إدريس هذه الحالة في تقديمه للكتاب: "أن تلك الظاهرة - ظاهرة فقر الفكر وفكر الفقر- أو الفقر في الأفكار المؤدية إلى فقر في الحياة والإنتاج حين يؤدي بدوره إلى فقر فكري، وهكذا دواليك".

محتوى إعلاني

كان لا بد للخروج في هذه الحالة التي امتدت لما يقرب من أربعين عاما في مصر من إرادة شعبية واسعة تدعو وتطمح لتغيير هذه الحالة من خلال انفتاح فكري وثقافي لا يتحقق إلا في ظل نظام سياسي ديمقراطي، وكانت ثورة 25 يناير هي الفرصة التاريخية لنبدأ مرحلة التحول الديمقراطي، أو المرحلة الانتقالية من السلطوية الى الديمقراطية، وأقول "نبدأ" للتأكيد على أن التحول لا يأتي بإسقاط رأس النظام ثم نذهب إلى منازلنا لنخلد للنوم فنستيقظ وقد تحولنا إلى الديمقراطية. عملية التحول الديمقراطي هي عملية منظمة تقوم على دعم ثقافة ومؤسسات التعددية السياسية وتفعيل مشاركة المواطنين عبر هذه المؤسسات وحرية الرأي والتعبير، وضمان الوسائل والأدوات اللازمة لذلك. فالثورات التي شهدت إطاحة عنيفة بأفراد النظام السابق لم تجلب في معظمها سوى نظم سلطوية بديلة لتلك التي كانت موجودة، إنما تجارب التحول الديمقراطي الناجحة في معظمها قامت على مجموعة من الإجراءات والتشريعات والسياسات التي تدعم الشفافية والمحاسبة مثل قوانين إتاحة المعلومات والعدالة الانتقالية، وفتح الباب لتكوين وحرية عمل الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، ومراعاة دعمها وتمكينها في مختلف مراحل عملية التحول، نعم هذه الأحزاب والكيانات ولدت مبتسرة لأنها لم تتطور بالشكل الطبيعي الذي شهدته أحزاب الديمقراطيات العريقة، وبالتالي كان من الواجب أن توفر لها الحاضنة التي تمكنها من القيام بدورها.

في واقعنا المصري لم نشهد منذ يناير 2011 وحتى الآن سوى هجوم وتضييق إعلامي وتشريعي على الكيانات التي تعبر عن التعددية، ويكتفى بمراجعة قانون الأحزاب أو مسودات قانون المجتمع المدني أو تعديلات مسودة قانون الحريات النقابية، وقانون تداول المعلومات، أو ما تم اتخاذه من إجراءات - أو بالأحرى ما لم يتم اتخاذه- في موضوع العدالة الانتقالية، لنكتشف أننا منذ يناير وحتى تاريخه مرورا بمختلف من تولوا السلطة أمام ذهنية لا ترغب في التعددية والديمقراطية ولا تعترف بها، مرة بحجة الخصوصية، ومرة بحجة الأمن القومي، ومرات بحجة الشرعية، وكأن الشرعية الانتخابية تسمح بالإطاحة بأصوات الآخرين أو بالعملية الديمقراطية التي وصل من خلالها برمتها. هذا بالتأكيد ليس فقط نتاج أشخاص تدافع عن مكتسبات ومصالح تراكمت لصالحها خلال سنوات الفساد التي سبقت الثورة، وإنما كذلك عقلية نمت وتربت على منهج معين أصبح بالنسبة لها هو الطريقة الصحيحة للعمل وما في خلافه إما خطأ أو في أحسن تقدير غير ممكن، أي أن جزء أساسي من عدم القدرة على التحول هو عجز الخيال الذي يعاني منه القائمون على السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية والنخب السياسية التي تشكلت خلال السنوات الثلاثين الآخرين.

ولنلقي نظرة على الحوار الدائر حول قانون الانتخابات الحالي لنكتشف مدى تراجع الخيال عند هؤلاء وعدم قدرتهم على الابتكار والخروج من أنماط التفكير السابقة. فنحن نتحدث عن نظام الفردي والقائمة، ثم ننطلق في جدل حول النسب وطبيعة احتساب الأصوات وكيفية تمثيل الفئات التي نص عليها الدستور في ظل هذا النظام؛ فنصل لنظام احتساب أصوات شبه مهجور لأنه جائر ولا يؤسس إلا لسلطوية جديدة من خلال سيطرة فصيل واحد على البرلمان وهو نظام القائمة المطلقة. لم يحاول أحد الخروج من هذا بطرح أفكار جديدة، على سبيل المثال: فكرة وجود قائمتين لكل حزب أو تحالف في كل دائرة، الأولي يمثل فيها الفئات المنصوص عليها في الدستور ويطبق عليها نظام القائمة المطلقة لضمان تمثيل كل الفئات التي نص عليها الدستور والثانية للأحزاب ويطبق عليها النظام النسبي، ذلك إلى جوار النظام الفردي.

 حجة صعوبة الانتخاب يمكن التغلب عليها ببساطة بأن يصوت الناخب لقائمة واحدة ليحتسب صوته للقائمة التمثيلية بشكل مطلق وللقائمة الحزبية بشكل نسبي. كما أن الحوار أصلا حول نسب المقاعد الفردية والقوائم هو حوار قد يجري في دول مستقرة ديمقراطيا، أما في مراحل التحول الديمقراطي فالأصل هو اختيار النظام الذي يعبر عن التعددية ويدعم الأحزاب ودورها، الذي هو إجراء أساسي كما أوضحنا من إجراءات التحول، وبالتالي الغلبة يجب أن تكون للقوائم. أما حجة عدم الدستورية فهي نابعة دائما من مبدأ عدم المساواة، لأن القوانين التي حكم بعدم دستوريتها كانت دائما تضع نظاما للفردي ولا تطبقه على القوائم، ففي الانتخابات الأخيرة كان للأحزاب فرصة أن يترشح أعضاؤها على المقاعد الفردية ولم يكن مسموحا للأفراد المستقلين تشكيل قوائم، وبالتالي الواجب مراعاته هو تطبيق ذات الأحكام في الحالتين وليس مخرجها في النسب أو نظام احتساب الأصوات. لكن الذهنية السلطوية التي ما زالت تصوغ التشريعات غير قابلة للقيام بغير ذلك، وجزء أساس من استمرار هذه الحالة هو استبعاد الشباب بحجة الخبرة، وكأن الخبرة هي المؤهل في حد ذاته بصرف النظر إذا كانت هذه الخبرة سلبية أو جامدة، وإذا كان الفكر الشاب مبتكر ومبدع فالغلبة ما زالت حتى الأن للأول رغم ما يدخلنا فيه من إخفاق متكرر.

هذا العجز في الخيال يجب أن يجد مبررا لإخفاقه الدائم وحالة عدم النجاح المتكررة، والتي بالتأكيد لن يعزوها إلى أنه يكرر ذات الأفكار ولو بأشكال مختلفة، أي أنه لن يرجعها لفشله، إنما يجب أن يجد مبررا خارجيا لذلك وأبرزها في العالم الثالث هو نظرية المؤامرة، فهي وسيلة أثبت في العالم الثالث نجاحا في الحشد حول الأفكار الجامدة ومبررا قويا لتبرير الفشل في إنجاز تحول سياسي مرة بالمؤامرة على الديمقراطية، وأخرى بالمؤامرة على الإسلام، والكبيرة بالطبع هي المؤامرة على الدولة. هكذا تقع شعوب العالم الثالث أسيرة لنظرية المؤامرة مما يهدد بفقد القدرة على النقد الذي هو أساس التطور. كما أن هناك مخرجا آخر هو تصور أننا ليس بأيدينا شيء، وأن هناك من يخطط وينفذ كل شيء من وراء الستار، وما الشعوب والمجتمعات إلا أداة لهذه المخططات المخابراتية أو الأمريكية أو الماسونية... الخ، ليتحول العجز في الخيال إلى خيال خاص يكونه هذا العجز.

يمكننا تبين ذلك إذا نظرنا إلى الصفحتين اللتين أفردتهم إحدى الجرائد للرد على افتتاحية "النيويورك تايمز" التي تناولت النظام المصري بالنقد، فقد بحثت طوال الصفحتين ما بين أقوال الكتب والسياسيين الذين تم لقائهم عن رد واحد فقط للنقاط التي وردت في المقالة فلم أجد سوى سبابا للجريدة واتهامات، وهو ما يعبر جديا عن الفقر في القدرة على الرد على ما ورد في المقالة، ليس لأنه كله صحيح بالضرورة، ولكن لأن ذهنيات العجز لا تمتلك موهبة التفكير خارج الأطر التقليدية التي تمكنها من تبين الثغرات في المقال ولا شجاعة الاعتراف بما ورد فيه من حقائق. هكذا يخلق العجز في الخيال خياله العاجز، ليبرر ويعيد إنتاج ذات الأفكار والسياسات من جديد، وكما يقول يوسف إدريس "وهكذا دواليك".

يشار إلى أن كاتب هذا المقال هو محمد العجاتي، كدير منتدى البدائل العربي للدراسات، وهو يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
 

 

نشر
محتوى إعلاني