رأي لأحمد عبد ربه حول أمل المعارضة الأخير في مصر
هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
المعارضة ليست ترفا ولا هي تقويض للدولة وتنميتها وتقدمها كما يحلو للبعض أن يردد، بل هي أحد أهم عناصر تحقيق الرقابة والتوازن فى أي نظام سياسي، هي (ضمن ترتيبات دستورية وأدوات سياسية وفاعلين آخرين) ضمانة تحقيق الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، كما أنها تشكل أحد أهم عناصر منع استئثار جماعة مصلحية بعينها على عملية صنع القرار، فهي التي تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من تمثيل فئات المجتمع المتعددة في عملية صنع وتنفيذ القوانين والقرارت.
***
المعارضة السياسية في مصر قطعا تعاني كثيرا، هي تعاني أولا من عطب الغالبية العظمى من قياداتها بسبب تقدم السن أو الهيمنة على عملية صنع القرار أو حتى مداهنة السلطة تحت دعوى حماية البلد من الانهيار وقد يجتمع فى بعضها ذلك كله! كما أنها تعاني ثانيا من قيود دستورية ومؤسسية وفعلية تعيقها عن العمل وعن التواصل مع الجماهير، فضلا عن مشكلات أخرى مالية وإدارية، ثم تأتي أزمتها الحقيقة في أنها تعاني حاليا حالة "غسيل الأدمغة" التي يتعرض لها المجتمع تحت وطأة وضغط صقور الإعلاميين وبعض حلفاء النظام أحمد عبد ربه ممن يروجون للناس أن المعارضة من عمل الشيطان وأن الوطنية تقتضي أن ندعم الرجل الواحد الذي نثق فيه حتى لا تسقط البلاد! حملة مازالت تقنع الناس أن البرلمان مقيد لعمل الرئيس وأننا يجب أن نبقى جميعا على "قلب رجل واحد" حتى لا نتفكك! حملة رجعية ذكرتني بأحد المنبطحين الإسلاميين ممن يصفون الديمقراطية بالكفر لأنها تدعو إلى التعددية الحزبية وأن الإسلام يرفض التحزب لأنه يعني الانقسام.
لا يعني هذا قطعا أنني من هؤلاء الذين يروجون لسردية المظلوميات التي تبكي قلة حيلة المعارضة الملائكية في مواجهة النظام الشيطاني، فليست وظيفة المعارضة في لطم الخدود ولا شق الجيوب مهما كانت الأوضاع السياسية صعبة أو خانقة كما هي الأن، ولكن واجبها هو الاشتباك مع الأوضاع القائمة والسعي إلى تغيير المعادلة
السياسية وقواعد اللعبة مهما كانت الظروف أو التكلفة وبكل الطرق القانونية السلمية الممكنة وهذه هي السياسة ومن لا يقدر عليها لا يمارسها ببساطة.
في ظل تلك الظروف العصيبة وأمام هذا القمع الممنهج أمام المعارضة المصرية أربع خيارات كبرى عليها أن تقرر أيهما ستختار خلال المرحلة القادمة مع حساب كلفة كل خيار.
الخيار الأول: هو خيار الانسحاب الكلي من العملية السياسية بداية من الانتخابات البرلمانية القادمة ومرورا بالانتخابات المحلية المنتظر عقدها خلال السنوات الثلاث القادمة. هذا الانسحاب قد يعني حل الأحزاب تماما تلقائيا أو تجميدها لإحراج النظام، أو إبقاء الحزب دون الدخول في الاستحقاقات الانتخابية لحين حدوث تغير درامي في المشهد السياسى! هذا الخيار ميزته الوحيدة هو عدم تورط الأحزاب السياسية المعارضة أو خضوعها لقواعد لعب غير عادل، لكن الكلفة هنا عالية للغاية، لأنها تعني انعزالا تاما عن المشهد السياسي وعن الجماهير وعن الواقع والعجز عن تطوير بدائل سياسية والاكتفاء بكتابة المذكرات السياسية واعتزال السياسة قبل الأوان.
الخيار الثانى: وهو خيار قبول الأمر الواقع والانخراط الكامل في قواعد اللعبة السياسية حتى لو غير عادلة بل والدفاع عنها باعتبارها أفضل المتاح أو باعتبارها ضرورة لابد منها لحماية الدولة من الانهيار. يعني هذا الخيار أن تتماهى المعارضة تماما مع النظام الحاكم وتتبنى هي مسئولية الدفاع عنه وعن سياساته، قد يكون المكسب هنا بعض الحماية الأمنية مع بعض التلميع الإعلامي، لكن ستكون الخسائر كبيرة، وأهمها المقامرات قصيرة الأجل التي عادة ما تنتهي بخسائر فادحة، فضلا عن إنتفاء صفة المعارضة عن الحزب دون حتى أن يلعب دور السلطة، هو فقط يقف عند حد القبول بالفتات المسموح له وحينما يؤدي دوره ولا يصبح هناك جديد يقدمه فإن التخلص منه سيكون بلا ثمن يذكر.
الخيار الثالث: هو أن تتحول الأحزاب السياسية ثانية إلى الحراك فى الشارع، فتعود إلى محاولة تكتيل الجماهير عن طريق الحشد فى الميادين والتظاهرات لصالح قضايا معينة أو حتى فى سبيل كل القضايا المطروحة للنقاش العام، وبذلك تكون الأحزاب أقرب للحركات الاجتماعية الثورية منها للأحزاب السياسية، وهو خيار مطروح بلا ريب لكن لا أظنه ناجحا إطلاقا فالشارع أولا رافض لأي مظاهر حراك فيما يبدو كما أن الحزب الذي سيقدم علي هذه الخطوة سيقدم نفسه فريسة مجانية للنظام وللإعلام ولا أظنه خيار فعال حتى الأن على الأقل.
أما الخيار الأخير: هو خيار خلق شبكات سياسية عرضية من خلال لعب دور ثلاثي الأبعاد، البعد الأول هو دور الحزب المنخرط في السياسة والانتخابات والموائمات..الخ. البعد الثاني هو دور جماعة المصالح الساعية إلى التشبيك مع شبكات متنوعة من رجال الأعمال وقادة الرأي العام والإعلاميين ورجال الإدارة العليا والسياسيين للضغط لصالح قضايا معينة سياسية كانت أو حقوقية من خلال أدوات متنوعة أهمها العلاقات الشخصية والمصلحية، أما البعد الثالث لهذا الدور فهو بعد "المنسق المجتمعي" الساعي إلى عمل تشبيك موازى للتشبيك الأول وهذه المرة مع فئات مجتمعية متعددة ومتماسكة إلى حد ما كالنقابات والطلاب والعمال ومؤسسات المجتمع المدني..الخ. هذا الخيار رغم كلفته العالية المتمثلة في بذل الوقت والجهد والتعرض للضغوط التي قد تستنزف الحزب إلا أنه يظل الخيار الأنسب بسبب تنويع جبهات الصراع والتنافس وعدم قصرها على الانتخابات فحسب مع إعطاء قدرة نسبية للحزب وكوادره على تطوير الخبرات العملية في التعامل مع الحكومة والأجهزة السيادية والمؤسسات القوية بالتوازي مع تطوير قنوات تواصل تدريجية مع الجماهير في الدوائر الانتخابية. لكن يتطلب القيام بهذا الدور الأخير خمسة شروط رئيسية.
الأول: تنمية وعي وإدراك كوادر الحزب أن التنافس طويل ويتخطي مجرد الانتخابات البرلمانية القادمة (بفرض حدوثها) إلى المنافسة في المحليات وتحضير مرشح قوي في الانتخابات الرئاسية القادمة والبحث عن حلفاء فى النقابات.
ثانيا: قيام الشباب داخل كل الأحزاب بحركة لتصحيح الأوضاع ومنع الركود والضغط من أجل تبني اصلاحات داخلية فورية علي هيكل وأطر عمل الحزب.
ثالثا: القيام فورا بعمليات دمج للأحزاب السياسية المتشابهة، فالدخول في مفاوضات للدمج مع الأحزاب الأخرى المشابهة يجب أن يبدأ سريعا حتى يتم الدمج في أقرب فرصة سواء قبل أو بعد الانتخابات البرلمانية وذلك لتوسيع مقدار الموارد البشرية والمادية والتنظيمية المتاحة.
رابعا: التحرك العرضي وليس الطولي في المجتمع، بمعنى عدم اقتصار العمل الحزبي على معركة البرلمان ولكن توسيعها لتشمل معارك أخرى كمعركة استقلال الجامعات وإصلاح أجهزة الدولة وانتخابات النقابات وقوانين التظاهر وقضايا العمال..إلخ آخذا في الاعتبار أن الاشتباك العرضي هذا لا يهدف بالضرورة إلى الانتصار في كل هذه المعارك أو القضايا بقدر ما يهدف إلى توسيع الشبكات السياسية الداعمة للحزب مستقبلا فضلا عن إكساب كوادر الحزب خبرات عملية تتخطى إدراك قوانين الانتخابات إلي واقع النقابات والجامعات والعمال والجهاز البيروقراطي بما يخدم تقديم بدائل وسياسات واقعية.
وأخيرا يتطلب ذلك كله حرص الأحزاب على إنشاء وحدات بحثية محدودة بباحثين متخصصين في المجالات الاقتصادية والاجتماعية التنموية لتقديم رؤى واقعية ما بين متوسطة إلى طويلة الأجل كبدائل سياسات وتشريعات متاحة لدى الحزب في المستقبل.
***
تمر السياسة المصرية بمأزق بلاشك، فهناك رجل واحد يدير المشهد هو نفسه أصبح مصدر شرعية واستقرار النظام، تجمعت حوله شبكات مصالح متعددة ومعقدة تحاول التأكيد على قواعد اللعب القديم وبسبب خبرته السياسية المدنية المحدودة فهو حتى الأن لا يبدي مقاومة ظاهرة للتغلب على هذا المأزق، واستمرار الوضع الراهن على ما هو عليه دون اتباع السيناريو الرابع (سيناريو الشبكات السياسية العرضية) من قبل أحزاب المعارضة، فإن النظام بمؤيديه ومعارضيه سيذهب سريعا إلى أزمات سياسية مروعة أحمد عبد ربه.