رأي.. هل تعطيل الدستور المصري ضرورة لمكافحة الإرهاب؟
هذا المقال بقلم د. زياد بهاء الدين، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
محصلة التشريعات الصادرة في الآونة الاخيرة تعني واقعيا أن الدستور الجديد أصبح في بعض جوانبه معطلا إلى حين إشعار آخر، كما يتضح فيما يأتي:
.صدور القانون رقم ١٣٦ لسنة ٢٠١٤ في الأسبوع الماضي والذي أدخل في اختصاص المحاكم العسكرية الجرائم التي يرتكبها المدنيون ضد المنشآت العامة، برغم تعارض ذلك مع المادة (٢٠٤) من الدستور، والتي تحصر اختصاص القضاء العسكري بالنسبة لمحاكمة المدنيين في الجرائم "التي تمثل اعتداء مباشرا على المنشآت العسكرية او معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها أو المناطق العسكرية أو الحدودية ..." والقول باعتبار المنشآت العامة التي تحميها القوات المسلحة "في حكم المنشآت العسكرية" فهو تفسير يتجاوز المقصود من النص ويخالفه.
.عدم الإعلان بشكل واضح وملزم عن موعد إجراء الانتخابات البرلمانية برغم أن الدستور ينص في المادة (٢٣٠) منه على أن "تبدأ الانتخابات التالية (أي البرلمانية) خلال مدة لا تجاوز ستة أشهر من تاريخ العمل بالدستور". وبما أن العمل بالدستور كان يوم ١٥ يناير ٢٠١٤ فإن الانتخابات البرلمانية كان ينبغي أن تبدأ قبل يوم ١٥ يوليو ٢٠١٤، وأن تكون بداية حقيقية وليس مجرد تشكيل لجنة للإشراف على الانتخابات ثم يتوقف الأمر عند هذا الحد. وها هي الشهور تمر وحالة الغموض مستمرة وموعد الانتخابات معلق على عملية ترسيم حدود المحافظات التي لا يعلم أحد ما طبيعتها وما أهميتها ومتى تنتهي. في كل الأحوال فقد جرى تجاهل الدستور ومخالفة أحكامه لأن الواضح أن الانتخابات البرلمانية لن تكون قبل مارس أو أبريل من العام القادم، أي بعد ما يقرب من ١٤ أو ١٥ شهراً من العمل بالدستور.
.التمسك بعدم تعديل أو إلغاء قانون التظاهر رقم ١٠٧ لسنة ٢٠١٣ الصادر في شهر نوفمبر من العام الماضي برغم تعارضه مع حرية التظاهر السلمي المنصوص عليها في المادة (٧٣) من الدستور، وبرغم أنه لم يمنع واقعيا أية تظاهرات عنيفة، بل اقتصر أثره على ملاحقة شبان وشابات كانوا في مقدمة صفوف ثورتي يناير ويونيو ولم يتجاوز جرمهم الوقوف على الرصيف ورفع صور زملائهم وزميلاتهم المحكوم عليهم بالسجن لعدة سنوات لأنهم أيضاً وقفوا في الشارع مدافعين عن حق التظاهر السلمي، دون حمل سلاح أو إلقاء طوبة أو تعطيل المرور أو ترويع المارة. والغريب في هذا القانون بالذات أن الحكومة قد ألمحت وصرحت عدة مرات بأنها لا تمانع من تعديله، بما يؤكد اقتناعها بأن أضراره قد فاقت مزاياه، ثم عادت لتنفي ذلك.
.صدور القانون رقم ١٢٨ لسنة ٢٠١٤ بتعديل المادة (٧٨) من قانون العقوبات (قانون "الأشياء الأخرى") منذ اسابيع قليلة، وهو التعديل الذي جعل مزاولة أي نشاط حزبي أو أهلي أو نقابي أو غير ذلك عملا محفوفاً بالمخاطر ويعرض من يمارسه لسلطة تقديرية غير مسبوقة من أجهزة الدولة في اعتبار ذلك جريمة تؤدي إلى السجن المؤبد أو الإعدام في ظل نصوص فضفاضة وقابلة لتفسيرات واسعة، وذلك كله في تعارض واضح مع الحريات المنصوص عليها في المواد ٧٤، ٧٥، ٧٦ من الدستور.
هذه بعض المخالفات الصريحة للدستور الذي أقره الشعب المصري بأغلبية غير مسبوقة ويشكل حجر الأساس في بناء شرعية جديدة للدولة، فهل كنا بحاجة إلى دستور يحمي الحقوق والحريات لكي نتباهى به فقط في المحافل الدولية ؟ أم أن الدستور يجب أن يكون قيدا حقيقيا على السلطة الحاكمة ومرجعا لحماية حقوق وحريات المواطنين ولضمان تطبيق القانون بالعدل والتساوي حتى على أعتى المجرمين؟ الدساتير لا تشرع لأوقات الأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادي فقط، بل الغرض منها هو الحفاظ على طبيعة الدولة المدنية وعلى مؤسساتها القضائية والتشريعية حتى حينما يكون البلد - كما هو الحال في مصر الان - في مواجهة مع الإرهاب والفقر والمؤمرات الخارجية، لأن هذا هو ما يحفظ للمجتمع تماسكه ويحشد قواه لمواجهة هذه الأخطار الداهمة.
في كل الأحوال لا أظن أن حقيقة أن الدستور صار معطلا تغيب عن أذهان الناس. هناك طبعا من يصرون على تبرير ما سبق بأنه لا توجد مخالفة دستورية من أي نوع: توسيع اختصاص القضاء العسكري يتفق والنص الدستوري، وحرية التظاهر السلمي لا تزال مكفولة للجميع وإن كان بقيود بسيطة، والانتخابات البرلمانية ستجري في موعدها، وقانون الأشياء الأخرى لم يشرع إلا لمواجهة التهديد الأجنبي للأمن القومي. ولكن لا أحد في الواقع يأخذ هذه التبريرات مأخذ الجد لأن هناك قبولا واسعا في المجتمع وفي الرأي العام لضرورة تأجيل الحديث عن الدستور والقانون والحريات لحين حسم المعركة ضد الإرهاب وإعادة الأمن والاستقرار للبلد. ولكن الحقيقة أن احترام الدستور والقانون لا يضعف من قدرة الدولة على مواجهة الإرهاب والفوضي بل على العكس فأن هذا الاحترام يدعم من تماسك المجتمع ومن وحدة صفوفه ومن حشد الجماهير وراء حكومتهم لأنه يجعل كل مواطن يشعر أن دولته حريصة على حقوقه وحريته ومواطنته الكاملة حتى في أحلك الظروف وأصعبها، وأن بنيان الدولة لا يزال قائما وأن مؤسساتها لا تهتز تحت وطأة القنابل والمتفجرات، وفي هذا وحده انتصار على الإرهاب والفوضي وحماية لهيبة الدولة واحترامها.
الدستور الحالي، شأنه شأن كل دستور في أي بلد آخر، ليس خالياً من العيوب وبالتأكيد ليس نصا مقدسا لا يمكن تعديله او تغييره، ولكن طالما كان قائما فيلزم الحفاظ عليه لأن تراجع المجتمع عن احترام نصوص الدستور وعن الاعتماد على قضاء مدني مستقل وعن تطبيق القانون بالعدل هو الهزيمة الحقيقية أمام الإرهاب وأمام من يحيكون المؤامرات ضد الوطن، فهؤلاء لا يكفيهم سقوط الشهداء والجرحي، بل يسعون وقبل كل شئ آخر إلى هدم البنيان الدستوري والقانوني للدولة، فلماذا نمنحهم هذه الفرصة بأنفسنا؟