مقال بقلم إكرام لمعي بالسياسات المصرية.. "الحوار: نعمة أم نقمة؟"
هذا المقال كتبه إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
بعد طلب الرئيس السيسي من "الشروق" أن تقوم بحوار مجتمعي لأجل مستقبل مصر، كان لابد أن تستجيب الشروق لهذا الطلب لأن مصر – فعلياً – بحاجة ماسة للحوار المجتمعي. وبنظرة عامة لما يدور فى مجتمعنا اليوم نجد أن هناك خطين رئيسين لتحليل الواقع ورؤى المستقبل هما: الخط الذي يردد أن "ما نحن فيه هو أفضل الاختيارات"، لأن مصر عانت من فقدان الأمن والأمان لسنين ومن فوضى عارمة ضاربة في كل جوانب الدولة، ومن فساد تعمق وبشدة بعد الثورة، لذلك عندما ظهر الفريق السيسي في الصورة كان معظم الشعب في ظهره مؤيدين له طلباً للاستقرار والأمن والأمان، أما الخط الثاني فيتحدث عن "القمع في الجامعات والاعتقالات الواسعة، والدولة البوليسية وحقوق الإنسان.. إلخ."
لذلك نحن لا نحتاج إلى حوار بين القوى السياسية والمجتمعية التقليدية من الأحزاب والهيئات والنخبة بقدر ما نحن بحاجة للحسم بين هذين الخطين الأساسيين والمتحكمين فى مستقبل مصر.
لماذا؟ السبب البسيط والمباشر لذلك أن الحوار الإنساني الدائر في مصر الآن ليس حواراً منطقياً بالمرة، لأن المفروض أن تكون الآراء إجتهادات شخصية نصيبها من الخطأ هو نصيبها من الصواب، وأن يكون هذا رأي ومبادئ الطرفين في الحوار، وعلى كل طرف أن يثبت أن رأيه هو الأفضل نسبياً وظرفياً وليس الأسمى وجودياً.
ففي الإقرار بتعدد الآراء والحوار حولها ممارسة صعبة ومتعبة وأحيانا قاسية، فكل طرف من أطراف الحوار يعتبر أن رأيه مطلق ومتسامٍ، وأنه يتماهى مع إنسانيته فيعلي بصورة مبالغاً فيها من كيانه، من هنا يشتد الصراع حول إثبات ما هو الرأي الأفضل، مما يستنزف وقتاً أطول بكثير من الوقت الذي يختصره الرأي الواحد من صاحب السلطة في فرض رأيه وتوجهه.
فتنافس المتحاورين في أجواء التعددية والديمقراطية يثير الملل وأحياناً النقمة على تسامح مساحة الحوار الذي يبدأ وكأنه رصين وجاد في عناوينه ثم ينتهي إلى ما هو تافه وخالٍ من المضمون، هذا كله وغيره من تدني مستوى الحوار مع الوقت الطويل واستخدام أمور شخصية لا تليق ينتج حنيناً إلى آلية للحسم، حيث إن إستنزاف الوقت في الحوارات الطويلة مع ما يواكبها من تململ وإحباط مع تطلع الجماهير المتابعة للحسم رغبة في الإنطلاق عملياً إلى الأمام يجعل الشعوب تبحث عن الرأي الواحد لصاحب سلطان مقبول.
وهو ما تم فعلاً في بلادنا فالذي حدث بدءاً من ثورة 25 يناير من كل قوى الحوار الشباب والمجلس العسكري والإخوان والمدنيين والأحزاب وتمسك كل صاحب توجه ورأي إلى أن رأيه هو المقدس، أوقع بلادنا في الفوضى وعمق الفساد بها وشعر كل مصري بعدم الأمان، وكان الحل الأمثل هو ما حدث في 30 يونيو.
واليوم بالتطلع إلى الحوارات الدائرة نعود إلى نفس الدائرة المغلقة، والسؤال الذي يجب أن يطرح وبقوة هو: كيف تقوم الدولة بالإنجاز والتقدم بخطى ثابتة وواسعة بالتوازي مع تقديس الحرية لأفراد الشعب، وليس على حسابهم أو حسابها. إن المعركة بين العقل والدين والتي بدأت في أعقاب ثورة 25 يناير، كانت معركة غير متكافئة بالمرة، فمن السهل جداً أن تنتقد منهجاً ينقد ذاته (عقل ناقد) قبل أن ينقده الآخرون، فهو نظام مفتوح على النقد، أما الفكر الديني فهو في معظمه فكر مغلق، ولقد تم ذلك فى بيئة وجمهور مغلق يسيطر عليه الدين ويتحكم فيه وهكذا تصبح المعركة هزلية أكثر منها جادة، ومحسومة من قبل أن تبدأ، هذا ما نستطيع أن نلاحظه في معظم وسائل الإعلام المصرية والعربية.
وما لاحظته في الحوار مؤخراً إن الذين يضعون العقل كمقياس للحوار رفضوا أن يضعوا عقولهم وآرائهم للأخذ والعطاء فقد اعتبروا ما يقولونه وحي يوحى، وهذا إلغاء للعقل القابل للنقد بطبيعته، وهذه كارثة لأن توقف النقد للعقل المحاور يحول العقل إلى دين آخر غير قابل للنقاش.
من هنا كان الاحتياج للحوار بين العقلانيين الذين اعتبروا آرائهم غير قابلة للنقاش، ويتحدثون عن أن ما حدث في 30 يونيو وما بعدها وحتى اليوم هو أفضل العصور التي تعيشها مصر وبين أولئك الذين يرون أن ما حدث في 30 يونيو وما بعدها وحتى اليوم هو كارثة بكل المقاييس، ونحن نعيش أسوأ عصور التاريخ المصري ويتحدثون عن الرئيس المدني المنتخب الذي عزل عن الصراع الذي دار في مصر على مدى أكثر من ثلاث سنوات على أنه الأفضل!، بل ويعتبرونه أقرب إلى الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان!!.
ونحن إذ نرى أنه لا توجد تجربة انسانية بلا أخطاء؛ فنحن نحتاج إلى أن نضع معاً التصور الأفضل لمصر المستقبل في ظل ما وصلنا إليه من أمن وأمان ودستور ورئيس منتخب، فليس من المعقول أن نتحدث عن عودة أخرى لنقطة الصفر ولثورات جديدة ما أنزل الله بها من سلطان فلا عودة للوراء. مع التأكيد أن هناك الكثير الذي يجب أن يتحقق لكي نصل الى تحقيق طموحات الشعب المصري الذي خرج في 30 يونيو. ومن هنا يصبح الحوار نعمةً وليس نقمة ً.