رأي.. لماذا تحتاج مصر إلى مجتمع مدني؟
هذا المقال بقلم أحمد عبدربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
حبس البعض أنفاسه انتظارا للإجراءات التى ستتخذها الحكومة المصرية بعد انتهاء المهلة التى حددتها وزارة التضامن الاجتماعي لمنظمات المجتمع المدني «لتوفيق أوضاعها»، وهو اللفظ الغامض الذي لم يجد إجماعا على تعريفه ولم تتمكن الحكومة أبدا من تحديد معايير ومقاييس هذا «التوفيق» مما جعل التحفز سيد الموقف في انتظار ما بدا أنه هجمة شرسة على هذه المنظمات.
***
كانت الأيام الأخيرة لانتهاء المهلة، والتي هي أصلا امتداد لمهلة أخرى كانت قد حددتها الوزارة، مليئة بالمؤشرات السلبية التي دعت الجميع إلى ترجيح كفة الهجوم العنيف على المنظمات، بدءا من الهجمات الإعلامية المنظمة التى خاضتها بعض المنابر المقربة من بعض الجهات الأمنية على هذه المنظمات متوعدة أسماء بعينها بالسجن والتنكيل، مرورا بشن حرب إشاعات نفسية عن هجمات إغلاق محتملة على مقارها وصولا إلى تعيين الوزيرة السابقة فايزة أبو النجا فى منصب مستشار الأمن القومي للرئيس وهى التي ارتبط اسمها بهجمة مماثلة على هذه المنظمات فى فبراير٢٠١٢. ورغم أن المهلة قد مرت بسلام ورغم أن تلك الهجمات المتوقعة لم تنفذ بعد، ورغم أن تصريحات مطمئنة وإن ظلت غامضة صدرت عن السيدة وزيرة التضامن الاجتماعي والسيد وزير العدالة الانتقالية فسرت على أنه لا نية لدى الدولة لشن أي هجوم وأن عملية تقييم لوضع هذه المنظمات مازالت مستمرة، إلا إن مصدر الخطر فى رأيي لم يزل قائما والأهم أن البيئة الضاغطة على عمل هذه المنظمات نحو خنقها مازالت قائمة.
ومن هنا تأتي أهمية إيضاح لماذا تحتاج أي دولة لمنظمات مجتمع مدني فاعلة في الحياة السياسية:
أولا: يلعب المجتمع المدني دورا مهما في تعقيد عملية صنع السياسات، و«التعقيد» المقصود به دفع النظام السياسي إلى التعددية ومن ثم التوازن بين فاعليه المختلفين. فبينما ينشغل الفاعلون الدولاتيون من مؤسسات شرطية وعسكرية وأمنية ومعلوماتية وبيروقراطية، بعملية حفظ الأمن واستقرار النظام على المدى الطويل مكترثين بهم البقاء والاستمرار بغض النظر عن الكفاءة والشفافية، وبينما ينشغل الفاعلون السياسيون من مؤسسات تنفيذية وتشريعية وأحزاب وتيارات وشبكات سياسية بعملية التنافس على السلطة والثروة مكترثين بالمواءمات والصفقات بغض النظر عن الشفافية والمساءلة، فإن المجتمع المدني وحده بمؤسساته واهتماماته المتعددة وبعدم انشغاله بعملية الصراع على السلطة هو القادر على تحقيق الرقابة ومساءلة النظام السياسى ودفعه إلى التوازن لمنع سيطرة فاعل بعينه على عملية صنع القرار السياسى ومن ثم الاستئثار بالسلطة والثروة.
ثانيا: المجتمع المدني هو الضمانة لحقوق الأفراد على مختلف انتماءاتهم وأعراقهم في مواجهة التنظيمات والجماعات العملاقة. فمعضلة السياسة أنها تنشغل باستغلال آليات الحشد والتعبئة للجماعات على حساب حقوق الأفراد المدنية والسياسية والاقتصادية، ففى السياسة الكلمة للقادرين على امتلاك أدوات الحشد والتعبئة، ومن ثم فإن التحالفات بين المؤسسات العسكرية والشرطية والبيروقراطية جنبا إلى جنب مع المؤسسات الدينية والقبلية ورجال الأعمال تلعب دور المهيمن على عملية صنع السياسات وتنفيذها على حساب الأفراد والجماعات المحدودة غير القادرين على الحشد والتعبئة، ومن ثم مقاومة هذه الشبكات العملاقة، وهنا يأتي دور المجتمع المدني لدعم هؤلاء الأفراد والجماعات وحفظ حقوقهم فى مواجهة تنين الدولة.
ثالثا: المجتمع المدني يلعب أيضا دورا مهما فى مساعدة الدول الأقل غنى في مواجهة الأعباء الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمواطنيها. فمنظمات المجتمع المدني كما أنها تهتم بموضوعات حقوق الإنسان والأقليات وغيرها من الحقوق السياسية، فإنها تلعب أيضا دورا مهما في الدفاع عن حق السكن والتعليم والصحة والعمل وتلعب أدوارا مهمة فى كل هذه الملفات فى توفير الخدمات الصحية والتعليمية والتشغيلية التي تساهم فى مواجهة الأعباء وتخفيف الضغوط على النظام السياسى ومن ثم الحكومة.
رابعا: تلعب منظمات المجتمع المدني دورا مهما في القيام بالأعمال البحثية والاستقصائية. فمعظم المنظمات الحقوقية على سبيل المثال أضحى لها وحدات بحثية للبحث والتحليل والاستطلاع من أجل رصد مشكلات المجتمع واتجاهات الحلول ومن ثم تقديم بدائل لصناع القرار تحتاج إليها تحديدا الدول الآخذة في التحول إذا ما أرادت التوصل إلى حلول علمية ومنهاجية غير منحازة لأجندات انتخابية أو حزبية بعينها.
خامسا: تلعب منظمات المجتمع المدني دورا نحو إضفاء أهمية دولية واستراتيجية للدولة (لا النظام) إقليميا وعالميا. فالدول التي تملك مجتمعات مدنية قوية تكون أكثر تحضرا وأكثر دمجا في المجتمعات والمحافل الدولية، وأكثر قدرة على التعبير عن تنوع وثراء حضارتها وشعبها من خلال الدور الاستراتيجي الذي يلعبه المجتمع المدني في هذا السياق. فمشاركة المجتمع الدولي في همومه البيئية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والثقافية لا تكون فقط من خلال الأطر الرسمية ولكن تكون أيضا من خلال الأطر المجتمعية التى تعطى زخما أكبرا وحضورا أكثر لدولها في المحافل الدولية.
سادسا: اتصالا بالنقطة السابقة فإن وجود مجتمع مدني قوي يعني وجود دولة قوية وواثقة من نفسها وقادرة على إدارة التعددية بداخلها وكذلك على السير فى ركب الحضارة والتطور والتقدم، أما الدول المقزمة لدور المجتمع المدنى فإنها بالضرورة تعبر عن نظام سياسى قزم وغير مهم ومرتعش أمام الداخل والخارج وهو حتما نظام على الهامش، غير مندمج فى البيئة الدولية وغير قادر على مواكبة تطورات الحضارة وسينتهى به الحال مهمشا دوليا وإقليميا.
***
بغض النظر عن الخطر الحاي الذي مازالت تعاني منه منظمات المجتمع المدني في مصر، وبغض النظر عما إذا كانت الحكومة ستتفاوض أو تتصادم مع المنظمات المدنية، فإن الجميع عليه أن يدرك أنه لا بناء لمصر المستقبل دون دعم حرية واستقلال المجتمع المدنى، ولا أهمية للنظام السياسى المصرى دوليا أو إقليميا على الأجل الطويل إلا لو أعطى الأهمية والأولوية لقضايا المجتمع المدنى الحر والممكن. ودور السلطة هنا إزاء منظمات المجتمع المدنى ليس دور الوصى أو المهيمن، ولكنه دور الضامن والحامى للاستقلال والحرية والتمكين من خلال ثلاث أدوات رئيسية: تتمثل الأداة الأولى فى ضمان تنفيذ مواد الدستور المتعلقة بباب الحقوق والحريات والالتزام بما وقعت وصدقت مصر عليه من معاهدات دولية. بينما تتمثل الأداة الثانية فى تشريع قانون جديد للجمعيات الأهلية والمجتمع المدنى لا يجعل سلطان عليها سوى للقضاء العادل والمستقل. ثم تأتي الأداة الأخيرة فى نشر ثقافة المدنية والتنظيم المجتمعى والتطوع والمبادرة من خلال فتح الباب أمام المجتمع المدنى للتواصل مع الجامعات والمدارس ومراكز الشباب وقصور الثقافة، ومن خلال إضافة فقرات عن دور وأهمية هذا المجتمع فى مناهج التعليم الأساسية والثانوية والجامعية، وإيقاف هجمات الإعلام البربرية العشوائية ضد هذه المنظمات.
يكثر وينتشر الهواة غير الجادين من أصحاب المصالح الضيقة ومن محترفي تصفية الحسابات على حساب الوطن ومصالح مجتمعه هذه الأيام فى مصر، مقدمين أنفسهم فى ثوب الوطنية المزيف للمجتمع والسلطة. الغريب أنها ليست المرة الأولى التى يلعبون لعبتهم الخطرة هذه. وفي المرة الأولى أهلكوا النظام، وها هم يكررون الكرة مرة أخرى ويا للغرابة لا يبدي النظام الحالي أي مقاومة جادة لهؤلاء! فلصالح من يلعب هؤلاء؟ ولماذا يتركوا بلا حساب أو عقاب أو حتى مقاومة؟ هل يتحرك النظام لصدهم؟ أم أن النظام اصبح مستفيدا بشكل أو بآخر من هذه اللعبة الخطرة؟ وبأي ثمن إذا؟