عمرو حمزاوي عن الأوضاع السياسية في مصر .. "الأمة القلقة"
هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
أما الإشارة فهي إلى الأمة المصرية، وأما تقرير وضعية القلق فأظنه توصيفا دقيقا لأحوالنا الراهنة ومرآة كاشفة لجذور وأسباب أزماتنا المتراكمة.
فحين نعجز عن حسم الاختيارات الأساسية بشأن حقوق وحريات المواطن وهوية المجتمع والدولة ووجهتهما القيمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية وطبيعة الموقع الذى نبتغيه في الإقليم والعالم، وحين تطغى التقلبات وحسابات المدى الزمنى القصير على ممارسات وإجراءات منظومة الحكم / السلطة وتغيب الرؤية الواضحة بشأن الحاضر والمستقبل، حين تحتكر قلة «حق» الحديث باسم الشعب والإرادة الشعبية والمصلحة الوطنية وتتورط في الطقوس المعهودة للسلطة التنفيذية وفى شيء من التقاليد الحزبية والإعلامية، بينما السياسة أميتت والإعلام جرد من المهنية والموضوعية والتعددية، حين تهمش قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين أو يفرض عليها إما الامتثال للحكم/السلطة أو الصمت والتهجير من المجال العام، حينها نكون إزاء أمة قلقة لا سبيل لتعافيها دون توعية بالعجز الحادث وبإخطار التقلبات الكثيرة والحسابات القصيرة والتهميش المتصاعد.
أي مواطنة نريد وعن أي مواطنات ومواطنين نبحث؟ هل نريد المواطن الذي تقر له المواد الدستورية والقانونية حتمية صون كرامته الإنسانية وحقوقه وحرياته في إطار المساواة الكاملة ومناهضة التمييز، إذن لماذا نترك المصالح والنخب الاقتصادية والمالية والإعلامية والحزبية المتحالفة مع الحكم/السلطة تنتهك يوميا كرامة وحقوق وحريات الضعفاء والفقراء والخارجين على الرأي الواحد والصوت الواحد المفروضين رسميا والعازفين عن احتفاليات الحشد الأحادي لتأييد رأس السلطة التنفيذية؟ هل نريد المواطنة الباحثة عن المبادرة الفردية والمتمسكة بحرية الاختيار والاعتقاد والإبداع والفكر والتعبير عن الرأي والمطالبة بالتداول الحر للمعلومات والحقائق إيمانا بالمعرفة والعلم والعقل والمهتمة سلميا بالشأن العام وبالمشاركة في العمل الطوعي والاضطلاع بمسئولياتها الاجتماعية، إذن لماذا نتجاهل عصف مؤسسات وأجهزة الدولة بسيادة القانون وتغييبها للمعلومة والحقيقة وتورطها في المظالم والقمع أو تهديدنا الدائم به على نحو يدمر المبادرة الفردية وينتهك الحقوق والحريات ويقضى على حيوية وفاعلية منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية التي يهددها هي أيضا القمع؟ وكيف نستمرئ النظر بمعايير مزدوجة لانتهاكات الحقوق والحريات، ويزج بنا إلى مواقع وخانات الاستعلاء باتجاه مصريات ومصريين تسلب حقوهم وحرياتهم لأنهم ينشدون العدل والديمقراطية بسلمية ويرفضون الاستبداد والسلطوية وإسكات الأصوات؟
وإذا كنا جماعيا بين ترك للمصالح وللنخب الكبرى وهي تنتهك حقوقنا وحرياتنا وبين تجاهل للعصف الرسمي بسيادة القانون أملا في تفعيل بعض حقوقنا الاقتصادية والاجتماعية وتحسين ظروفنا المعيشية ومحاربة الفساد وتطبيق بعض الحكم/السلطة لبعض إجراءات العدالة الاجتماعية، فلماذا لا نعيد النظر في تاريخنا نحن البعيد والقريب لنتثبت من أن حقوق الناس فى التعليم والعمل والرعاية الصحية والاجتماعية والحياة الكريمة يستحيل إقرارها دون تمييز وتفعيلها دون تقلبات ما لم تستقر مبادئ سيادة القانون وقواعد الرقابة القانونية والشعبية على الممارسات والإجراءات الرسمية وحيادية الخدمة العامة والشفافية كشرطين لمحاربة الفساد؟ وإذا كنا نترك هنا ونتجاهل هناك تارة خوفا من القمع وتارة طمعا في شيء من الحماية ــ العوائد تعرف منظومة الحكم/ السلطة، وكذلك حلفائها كيف يغروننا به عبر صناعة أوهام «المنح حين الامتثال» وتثبيت جاذبية «العطايا السلطانية»، فما أسباب تخاذلنا عن الانتصار لكرامة الإنسان ولحقوقه وحرياته الأساسية في مواجهات قيمية وفكرية وضميرية مع تطرف يعادى القيم الإنسانية ويكره الحياة وإزاء الاستخدام السلطوي الزائف للمقولات الكبرى كالوطنية والدين بغية القضاء على حقنا في الاختيار ورغبتنا في التحرر؟
أي مجتمع نريد؟ هل نريد مجتمع التنمية الشاملة والتقدم، إذن فكيف لا نتألم على ضياع قيمة المعرفة والعلم والعقل وعلى امتهان قيم العمل الجماعي والقيادة الجماعية وتهميش الشراكة الجادة بين فعاليات المجتمع وبين مؤسسات وأجهزة الدولة في مقابل طغيان الجهل وعنفوان النهج الانفرادي وسطوة المبررات التي لا تنضب صياغاتها، ولا يغيب أبدا مروجوها بشأن هيمنة الدولة على المجتمع وسيطرة الحاكم الفرد على الدولة؟ هل نريد مجتمع المساواة دون تمييز ونرغب في الانتصار لكرامة الإنسان والمطالبة بحقوق وحريات كل مواطنة وكل مواطن ونثق في أن تنظيماتنا الوسيطة كالمجتمع المدني والجمعيات الأهلية هدفها هو التعبير عن مطالبنا والدفاع عنها، إذن كيف نتجاهل الهجمة السلطوية الراهنة على نقابات مستقلة ومنظمات حقوقية ونسائية وهيئات خيرية ونشيح بوجوهنا بعيدا عنها وعن جموع العاملين بها ونقبل التعميمات الظالمة التي تروج عنها وعنهم دون أن نميز موضوعيا بين الحق العام (وعليه يتأسس حق المواطن والمجتمع والدولة) في إلزامهم بمقتضيات شفافية النشاط والتمويل وممارسة المساءلة والمحاسبة حال حدوث تجاوزات أو مخالفات وبين الرغبة السلطوية فى إلغاء وجود التنظيمات الوسيطة لكى "تنفرد" بالمواطن؟ هل نبحث بالفعل عن المساواة والكرامة والحق والحرية في كافة مساحات وقطاعات المجتمع ما لم يلوح الحكم/السلطة بالقمع أو تغرينا دوائره أو مؤسسات وأجهزة الدولة التي يسيطر عليها أو المصالح المتحالفة معه بثنائية الحماية ــ العوائد، فلماذا بعيدا عن كل هذا نتورط جماعيا في انتهاكات بشعة لكرامة الناس، وفى الإيقاع بضحايا تأتى بهم وسائل إعلام جردت من كل معنى من معانى المهنية والموضوعية والقيم الأخلاقية والإنسانية ونذبحهم نحن بالإدانة الشاملة وهيستيريا العقاب الجماعي ــ إلى الإجرام الإعلامي وهيستيريا الرأي العام بشأن «حمام الأزبكية» أشير، وهناك العديد من الأمثلة الأخرى؟
هل نريد مجتمع القطاع الخاص الفعال ونشجع الشراكة بينه وبين القطاعات والمصالح والاستثمارات المملوكة أو المدارة من قبل مؤسسات وأجهزة الدولة ونؤمن أن ضبط قواعد العمل والشراكة يمثل ضرورة لتحقيق التنمية المستدامة والتقدم والقضاء على الفساد والتربح واستغلال المنصب الرسمي والأوضاع الاحتكارية أو شبه الاحتكارية المشوهة للمنافسة ولتنوع اقتصاد السوق وطغيان الأقوياء على الضعفاء ومن ثم الإفتاءات على الحق العام، إذن فما تفسير تجاهلنا لاستمرار طغيان المصالح الاقتصادية والمالية والاستثمارات الخاصة الكبرى وتهميشها العنيف للمصالح الصغيرة والمتوسطة وما أيضا تفسير تعثر ضبط العلاقة بين القطاع الخاص والمصالح والاستثمارات الحكومية وتذبذب الحكم/السلطة بين ممارسات وإجراءات جوهرها هيمنة الدولة على المجتمع والحكومي على الخاص وبين ممارسات وإجراءات أخرى لا تزعم أن الدولة بمفردها قادرة على تجاوز أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة وتدعم اقتصاد السوق الحرة إلا أنها لا تقدم الكثير لضبطه ومواجهة اختلالاته؟
أي دولة وطنية نريد، وكيف السبيل لإكسابها القوة والمنعة اللازمتين لصون كرامة المواطن وحقوقه وحرياته ولتحقيق سلم المجتمع والحفاظ على فرص فعلية في التنمية والتقدم؟ لا يمارى عاقل في الدولة الوطنية كضرورة، ولسنا بجدية فكرية وصرامة تحليلية في احتياج لاستدعاء النماذج الكارثية لانهيار الدولة الوطنية ولأشلائها المتبعثرة من حولنا للتدليل على حتمية التمسك بالدولة الوطنية في مصر. أما السؤال الحقيقي الذي يتعين علينا طرحه وإدراك أن المحاولات السابقة ــ بعيدها وقريبها ــ للإجابة التوافقية عنه باءت بالفشل وحملت عجزا يستحيل إخفاؤه ــ فهو ما الطبيعة المنشودة للدولة الوطنية المصرية، وما أسباب تفضيلها على غيرها من طبائع الدول ومسالك الحكم/السلطة المرتبطة؟ هل نبحث عن الدولة القامعة التي تلغى وجود المواطن الفرد وتستتبعه كما تلغى وتستتبع التنظيمات الوسيطة وتهيمن على المجتمع وتشهر في وجهنا جميعا أدوات قمعها أو تهددنا بها أم نبحث عن الدولة القوية بالعدل المستمد من سيادة القانون، ومن رفع المظالم ومن صون كرامة الإنسان وحقه في الاختيار ومن تمكين الناس من حقوقهم وحرياتهم ونصيبهم العادل في الحياة الكريمة والثروة؟
هل نريد دولة الحاكم الفرد وطغيان المكون الأمني وتحالفات الحكم/السلطة مع المصالح الكبرى التي أبدا لن تأتى لا بتنمية مستدامة ولا تقدم فعلي أم نريد دولة تتوازن مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية وتعرف ديمقراطيا علاقاتها المدنية ــ العسكرية فتبتعد عن الاستبداد وتحمى سيادة القانون فى إطار مواطنة الحقوق والحريات المتساوية والشراكة المتكافئة مع المجتمع ومع تنظيماتنا الوسيطة التي تقف بيننا كأفراد وبين المصالح والاستثمارات الخاصة وبيننا كأفراد وبين مؤسسات وأجهزة الدولة؟ هل توافقنا على دولة يتواصل بها الخلط بين المكون الديني ومكونات الحكم/السلطة (بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة) وتستمر بها غلبة قيود الاختيار في الاعتقاد والفكر والتعبير الحر عن الرأي على قيمة الحرية أم نسعى إلى دولة مرجعية الحكم/السلطة ومجالها العام تتمثل في أطر دستورية وقانونية عادلة وتلتزم بالحيادية إزاء تنوع هويات الناس الدينية والمذهبية ولا ترى فيهم إلا مواطنات ومواطنين لهم حقوق وحريات متساوية.
تلك هي الأسئلة التي ما لم نجب عليها بوعي وبوضوح وبتوافق، لا فكاك لنا من هوان العجز الراهن ولا خلاص من وضعية الأمة القلقة التي لا تستحقها مصر.