بقلم ياسمين فاروق.. "بين الشعوب والأنظمة: السياسة الإقليمية لمصر منذ 2011"

نشر
10 دقائق قراءة
Credit: Ed Giles/Getty Images

هذا المقال بقلم ياسمين فاروق، مدرسة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

لفترة وجيزة من الزمن، أحل التضامن الشعبي العربي محل العروبة النفعية المزيفة التي اتبعها مبارك لدرجة جعلت البعض يتحدث عن إعادة ميلاد العروبة بإرادة الشعوب وليس بقرار من النظام الحاكم الذي يريد أن يفرض توجهاته على باقي الأنظمة العربية كحال مصر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ولكن اخترقت هذا الشعور العروبي بعض التفاصيل التي تفسر محدودية الدور الذي لعبه التضامن العربي في السياسية الإقليمية بعد سقوط مبارك. لعل أهم هذه التفاصيل هو أن اندفاع الشعوب نحو الشعور بأن مصر هي تونس أو سوريا كان في حدود التعويل على اللحظة التاريخية دون أن يعني ذلك إعادة تشكيل نظام إقليمي عربي جديد. فإن الفاعلين الأساسيين في الحراك السياسي لم يختاروا القالب العربي لربيعهم ولكن في الكثير من الأحيان وضعوا فيه بعد حدوثه، على خلاف الثورة العربية على الحكم العثماني خلال الحرب العالمية الأولى أو حركات التحرر من الاستعمار في الخمسينات والستينات.
محتوى إعلاني

ذلك أن تبادل الخبرات بين النشطاء العرب كان محدوداً قبل 2011، لأن كل منهم يعيش في إطار سلطوي لا يسمح بتطوير استراتيجيات تثبت نجاحها وبالتالي تدفع الآخرين نحو الاستفادة منها بما يثري التبادل بين المجتمعات المدنية العربية عبر الحدود. كما أن الكثير من النشطاء سمح لهم الانفتاح على العالم الخارجي بالتواصل مع حركات التحول الديمقراطي خارج العالم العربي. وقد خلق ذلك زخماً في العلاقة بين نشطاء عرب وأجانب حول وحدة القضية وهي التحرر من السلطوية وليس الوحدة العربية. أضف إلى ذلك أن الإطار العربي جاء كرد فعل على اتجاهات السياسة الخارجية لدى الأنظمة العربية. فقد اختارت الثورات أن تسير في الاتجاه المعاكس لاتجاه الأنظمة الحاكمة على المستويات السياسية داخلياً وخارجياً.

وبالتالي كانت هناك لحظة تقول بأن مصر هي تونس لمعارضة مغذى مقولة نظام مبارك بأن مصر ليست تونس، أي لإثبات العلاقة الممتدة بالثورات الشعبية على السلطوية عبر الحدود.

محتوى إعلاني

2012-2013 : الإسلام هو الحل

إن هذا الحيز المحدود للعروبة هو ما سمح للإسلاميين باستغلال هذا الزخم الشعبي وابتلاعه في مشروع الإسلام السياسي الذي ينادي أيضاً بالتماهي بين الشعوب دون الاعتراف بحدود ولا بدول. فلم نسمع إبان حكم الإخوان المسلمين أن مصر ليست تونس أو سوريا. وعلى الرغم من أن تعامل مرسي مع القضايا العربية كان من منظوراً إسلامياً، إلا أن مرسي لم يسعى إلى قطيعة مع الدول التي ساندت مبارك أو التي تحكمها أنظمة سلطوية. فقد امتلك نظام الإخوان مشروع الإسلام السياسي كمرجعية أيديولوجية فضفاضة تسمح بالخروج عن إطار الأنظمة الحاكمة للدول أثناء التفكير في السياسة الخارجية. ذلك أن التعويل على الاتصال المباشر بين المجتمعات والحركات السياسية والأيديولوجية سمح لهم بفتح أبواباً للسياسة الخارجية حتى في الدول التي تحكمها أنظمة معادية للثورات.

ولعل سر براغماتية الإخوان المسلمين هو أن العلاقات مع الأنظمة لا تحل محل ولا تتعارض مع العلاقات العابرة للحدود. ولذلك يكون من البراغماتية التعامل مع جميع الأنظمة وعدم المبادرة بتهديدها لأن هناك طرقاً أخرى لتحقيق الأهداف لا تمر بالأنظمة الحاكمة. لذلك احتفظ الإخوان بعلاقات ودية مع أنظمة الخليج لأن معادتها أغلى ثمناً من الاستثمار في العلاقة مع الحركات السياسية والدينية داخل هذه الدول.

2013-2014: الأنظمة الحاكمة هي الحل؟ الإجابة من سوريا وليبيا والعراق

نشهد اليوم ميلاً في السياسة الخارجية إلى التفكير في حدود النظام الحاكم في الدول الأخرى وتجاهل شعوبها. ولكن في وقت تتحدى فيه المجموعات التي تقوم على الهوية إطار الدولة، تحتاج مصر لأن تتخلى عن تعريف علاقاتها الخارجية في إطار الأنظمة الحاكمة وأن تنفتح على الحركات الداخلية خصوصاً وإن كانت أقرب حلفائها في المنطقة تستخدم هذا النمط من العلاقات في تعميق نفوذها الإقليمي، وإذا كانت القوى الدولية تستخدمه أيضاً بل وتعول على الدول التي تجيد استخدامه.

لا يجب أن يحرمنا الهوس بعودة هيبة الدولة ونظرية المؤامرة التي تسيطر على التعامل مع المجتمع المدني والمعارضة السياسية من أداة مهمة من أدوات السياسة الخارجية بشكل يجعلنا أضعف من أن نلعب دور الوسيط. فبالنظر إلى تجارب لبنان والعراق بل وأفغانستان ندرك أن الدول الإقليمية التي تستمر في كونها طرفاً في إدارة الصراع على المدى الطويل هي التي تتمكن من أن تبني علاقات سياسية بل وأيديولوجية مع الفاعلين على الأرض سواء كانوا داخل النظام الحاكم أو خارجه. وإذا كانت الولايات المتحدة تعول حالياً على الدول العربية التي تساند الضربات العسكرية ضد داعش، فهي لن تعول على نفس هذه الدول بالضرورة فيما يخص الحل السياسي طويل الأجل في سوريا والعراق وحتى ليبيا.

إن التحرك المصري الحالي في هذه الصراعات يعبر عن نظرة مفادها أن اللجوء بالتفكير في السياسة الخارجية خارج صندوق الأنظمة الحاكمة لا يعني بالضرورة مساندة طرف بعينه من الأطراف المتنازعة، ولكن يعني محاولة لعب دور الوسيط الذي تسمح له هويته المركبة من التدخل دون أن يكون محسوباً على أحد أطراف النزاع، على أن يكون هذا التدخل بهدف الاستبقاء على الأنظمة الحاكمة أو إعادة إحيائها. ذلك أن مصر غير قادرة على توفير المال ولا السلاح ولا المجاهدين، ولكنها قادرة على توفير الاعتراف العربي والدولي للترتيبات السياسية داخل مناطق النزاعات. فهذا هو الدور الذي تحاول مصر أن تلعبه حالياً في سوريا وليبيا بل والعراق، ولكن السؤال: هل تمتلك مصر مقومات لعب هذا الدور على المدى الطويل؟ إذ يتطلب ذلك تواصلاً مع الفاعلين على الأرض في إطار الدبلوماسية بالتوازي مع المسار الأمني بما يسمح بأن تكون الوساطة المصرية مقبولة من جميع الأطراف وليس مفروضة عليها بالقوة العسكرية.

لا شك أن سوء علاقة النظام الحالي بالحركات الإسلامية يعيق أدوار الوساطة التي يمكن أن تلعبها مصر في سوريا والعراق وليبيا على المدى الطويل لأن هذه الحركات عابرة للحدود بطبيعة تكوينها وأيديولوجيتها حتى وإن لم تكن على اتصال تنظيمي مباشر ببعضها البعض. وإذا كان الاعتماد على القوة العسكرية يحقق نجاحات محدودة على المدى القصير في ليبيا وفي سوريا، فإن مصر لن تكون طرفاً في حل هذه النزاعات على المدى الطويل لأن الجماعات الإسلامية لن تختفي من هذه الدول، على الأقل قبل أن يتم إعادة بناء الدولة بل والأمة على مدار عشرات السنين.

كما أن التعامل مع بعض ابناء القبائل في مصر لا يجب أن يمثل نموذجاً للتعامل مع ابناء القبائل في ليبيا والتي يرفض الكثير منها، وهم من المسلحون، الاقتراب المصري في التعامل معهم. أضف إلى ذلك أن الحركات الإسلامية والقبائل قد تستمر كعنصر في التحالف الحاكم داخل هذه الدول. وإن استمرت مصر في حربها على الإسلام السياسي، فإن ذلك سوف يخرجها تدريجياً من المعادلات السياسية على المدى الطويل في كل من ليبيا وسوريا والعراق ويحولها إلى عبء على الأطراف الإقليمية والدولية التي تبحث عن حل لهذه النزاعات.

فالحروب الأهلية في سوريا وليبيا هي حروب تم تدويلها وتستثمر فيها أطراف إقليمية ودولية الكثير من المال والسمعة الدولية، فما الذي تمتلكه مصر لتدفع هذه الأطراف نحو التضحية بعائد هذه الاستثمارات بهدف التوصل لتوافق إذا لم تكن مصر قادرة على فرض التسوية التي تطرحها من خلال امتلاكها لشرعية سياسية تعترف بها جميع الأطراف على الأرض؟ و كيف تفرض مصر الحل على أرض الواقع إذا كان الأطراف الفاعلين في الحرب الأهلية داخل سوريا وليبيا يرون في النظام المصري الحالي نموذجاً للنظام الذي أسقطوه في ليبيا ويسعون لإسقاطه في سوريا؟ وهل تنجح وساطة مصرية تتجاهل الأطراف الإسلامية والقبائل العربية التي تساندها؟ ألن تكتشف الأطراف الدولية والإقليمية أننا لا نمتلك أدوات فرض الحلول التي نطرحها؟ إن الأطراف السورية والليبية قد تقبل الوساطة المصرية لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل مدعمة بقوة السلاح وبالاعتراف الدولي، ولكن قد ينتهي دور مصر عند هذا الحد قبل أن يتحول إلى ما كان عليه إبان حكم مبارك: مفلس وهدام.

 

نشر
محتوى إعلاني