ماذا يمكن أن يفعل السوري بعشرة آلاف يورو اليوم؟ ... فصلٌ في "التغريبة السوريّة"
دمشق، سوريا (CNN) -- رغم التقارير الصادمة التي تقدّر عدد السوريين بـ"الآلاف" ممّن لقوا حتفهم غرقاً في البحر المتوسط خلال العام الفائت، أثناء محاولتهم التسلسل إلى أوربا على متن "قوارب الموت"، هرباً من جحيم الحرب السوريّة، إلاّ أن حلم الهجرة بحثاً عن فرص حياةٍ أفضل، لازال يداعب مخيّلة سوريين كثر آخرين، ضاقت فرص العيش بهم في بلادهم.
أحاديث عابرة، مع سائقي سيّارات الأجرة بدمشق، أو روّاد المقاهي، تكشف عن ذلك الهوس بالهجرة، خاصّةً لدى الشباب، الذين يتملك العديد منهم هاجس تحاشي خيار الاضطرار للقتال على الجبهات، مجد (25 عاماً طالب بكلية الهندسة الميكانيكية) واحدٌ منهم، واعتبر في حديثٍ مقتضب لـ CNN بالعربية أنّ أبناء جيله هم: "الخاسرون الأكبر في هذه الحرب، الكل يسعى لاستهدافنا، لنكون إمّا مقتولاً أم قاتلاً، لذلك تبدو الهجرة إلى أوربا - رغم المخاطر- الخيار الأفضل بالنسبة لنا، -إذا تمكنّا من ذلك بالأصل- ربما نستطيع إكمال الدراسة، والعمل، والبدء بحياة جديدة، بعيداً عن هنا، ولكن هكذا خيار يبدو أيضاً صعب المنال."
ولكن ألا تخشى الموت غرقاً كما حدث للكثيرين؟ "لا، فاحتمال موتي هنا ورادٌ جداً، برصاصة، قذيفة، أو تفجير، أو... أما إذا حاولت الهجرة، فستكون فرصي أكبر بالحياة، فهناك الكثير ممن سمعت أنّهم وصلوا إلى البلدان الأوربية، وهم أكثر من أولئك الذين ماتوا على الطريق."
ما الذي يؤخرك عن قرارك إذاً؟، يجيب مجد: "أنا الشاب الوحيد، لأمي وأبي، وأساعد في مصروف العائلة، إلى جانب دراستي، كما أن مصاريف الهجرة الآمنة تبدو باهظة جداً، وقد تصل لعشرة آلاف يورو (مليونين ونصف المليون ليرة سورية)."
الهجرة الآمنة؛ أو الخيار الأفضل للهجرة، هذا ما نسمعه كثيراً بدمشق اليوم، ويعني ذلك بحسب الكثيرين ممن استطلعت CNN بالعربية آراؤهم: تأمين مبلغ يتراوح بين الـ 7000 و12000 دولار، يتضمن هذا المبلغ تكاليف الهروب إلى تركيا، ومنها لـ اليونان على متن يخوت سياحيّة، أو (قوارب أفضل حالاً من تلك التي تقل السوريين الهاربين عبر شواطئ شمالي أفريقيا باتجاه أوربا، وتتركهم لقمة سائغة للموت)، وبمجرد الوصول لبلاد الإغريق، تبدأ المرحلة الثانية الأكثر صعوبة لرحلة الهجرة غير الشرعية، وهي مغادرة الأراضي اليونانية، خلال ستّة أشهر، عبر محاولات مضنية، قد تفشل مراراً، قبل بلوغ الوجهة النهائية: ألمانيا، السويد، هولندا، النرويج. . إلخ.
لضمانِ هجرةٍ أكثر أماناً؛ عادةً ما يستبق السوريون (ميسوري الحال، أو أبناء الطبقة الوسطى) رحلة هجرتهم غير الشرعية، بأخذ أرقام المهربين الموثوقين في تركيا واليونان، ممن سبق لمعارفهم، التعامل معهم، فمهنة تهريب البشر، أصبحت: "حرفةً بحد ذاتها، لها أصولها، وبعض أصحابها أصبحوا ذائعي الصيت في سوريا، وغالباً ما يكونون من الأكراد، العراقيين، المصريين، أو دول الشمال الأفريقي"، وذلك بحسب (صحفية سوريّة فضّلت عدم الكشف عن اسمها، نجحت مؤخراً ببلوغ وجهتها إلى السويد)، وكشفت لـ CNN بالعربية بعض تفاصيل رحلتها بالقول: "اتفقنا مع المهرب التركي قبل مغادرتنا لسوريا، وسافرنا إلى اليونان عبر قارب سياحي، بعد أن أودعنا المبلغ المتفق عليه لدى إحدى مكاتب تحويل النقود بتركيا، مع الاحتفاظ برقم سري، أبلغنا عنه من قام بتهريبنا لدى وصولنا للجزيرة اليونانية، أقمنا بأثينا حوالي الشهرين، حاولنا خلالها البحث عن أكثر الطرق أمناً للهجرة بالطائرة إلى السويد، وتم لنا ذلك، بعد محاولتين، إحداها فشلت بمطار روما، حيث أعادتنا السلطات الإيطالية من حيث أتينا، لكن المحاولة الأخرى نجحت."
يقوم المهربون باليونان، بتأمين جوازات سفر مزوّرة، للسوريين، من جنسياتٍ مختلفة، يسهل عبورها عبر المنافذ الحدودية الجويّة الأوربية، غالباً ما تكون تركيّة، أو إيطالية، لتبدو أشكالهم مقنعةً لدى سلطات المطارات، ونوّهت الصحفية، إلى أن تكاليف رحلة الهجرة المضمونة عبر اليونان، بدأت تتجاوز مؤخراً الـ 12000 يورو، و"فشل السوري في المرور بالمطار، لا يكون المهرب مسؤولاً عنه فقط، بل يجب أن يتمتع المهاجر بالقدرة على تقمص الشخصية الجديدة، التي يحمل جوازها، سواءً بشكله، أو تصرفاته، ولغته، ومن المفيد جداً الحجز على متن خطوط جويّة محترمة (غير رخيصة)، وحبذا لو كانت التذكرة من الدرجة الأولى."
وثمّة مفارقاتٌ تحدث، تلامس حدود الطرافة، رغم مرارة تفاصيلها، فعبد الرحمن؛ فشل في سفره عبر مطار أثينا، بسبب احتيال مهرّبٍ منحه جواز سفر يوناني، دون علمه بذلك، ما أدخل موظفّة المطار بنوبةٍ من الضحك، حينما حاولت التواصل معه، باللغة اليونانية، وافتضحت أمره، لكنّها تغاضت عنه، وقبلها كان نصيبه الفشل على باب الطائرة، حينما كان يحمل جوازاً إيطالياً، فطلبت المضيفة من إحدى زميلاتها الإيطاليات التحدث إليه بالإيطالية، فاكتشفت أنّه سوري، يحاول الهروب بطريقة غير شرعية، وتم احتجازه بالمطار لساعات، ليحاول مرّة ثالثة، بجوازٍ يحمل الجنسية التركية، ونجحت محاولته أخيراً.
عبد الرحمن (27 عاماً)؛ شاب سوري، من مواليد الكويت، أتم دراسته الجامعية كمهندس معماري في سوريا، وانتهت صلاحية إقامته بالدولة التي ولد ونشأ فيها، مع بداية الأزمة السورية، وتعذّر اجتماعه بأهله بسبب ما تفرضه الدولة الخليجية من قيودٍ متشددة على منح السوريين تأشيرات الإقامة، ولكي لا يبقى وحيداً بدمشق، اختار الهجرة للسويد، ويبدو مرتاحاً خلال المرحلة الحالية، لبلوغه وجهته الجديدة للحياة، ولفتَ في حديثه لـ CNN بالعربية، إلى أنّ العديد من مواطنيه المقيمين بالكويت، ودولٍ خليجيةٍ أخرى: "يلجؤون لخيار الهجرة غير الشرعية" بسبب القلق حيال المستقبل والقيود التي قد تعترضهم قانونيا في تلك البلاد، لكن طريق هجرتهم يبدو أسهل من حيث يقيمون بدول الخليج، وغالباً ما يحدث ذلك مباشرةً دون الحاجة للمرور بمرحلتي تركيا، واليونان"، على حد قوله.
ومن مكان إقامته المؤقتة بالسويد؛ كشف عبد الرحمن، عن تناقضاتٍ كثيرة، يقع فيها السوريون الوافدون إلى هذه الدولة الاسكندنافية، بسبب موروثهم الاجتماعي، والديني، مما يجعل الكثيرين منهم يعانون صعوباتٍ في التكيّف: "وأكثر ما يثير الاستغراب، خشيتهم من نشأة أولادهم ببلاد الكفر على حد وصف بعض المتطرفين"، ويتساءل الشاب السوري ما الذي دفع أولئك لهذا الخيار بالأصل، بـ"أن يقيموا ببلادٍ لا يحترمون ثقافتها."
ربما يحمل هذا التساؤل، في طيّاته الكثير من التناقضات التي أفرزتها الحرب، لدى العديد السوريين، البلاد التي غادرها أبناؤها بالآلاف بحثاً عن الرزق على مدى الخمسين سنة الماضية، ثم اضطروا لمغادرتها مجدداً بسبب حربٍ معقدةٍ في تفاصيلها، وأحداثها، ليشكلوا أكبر موجة للجوء الجماعي، عبر أربع سنوات(2011-2015)، ليحلوا بالمرتبة الثانية، مشكلين ربع إجمالي عدد اللاجئين في العالم بعد الفلسطينيين، ويزيحون الأفغان للمرتبة الثالثة، بحسب آخر تقارير الأمم المتحدّة.