بسمة عبد العزيز تكتب لـCNN عن "الثورة الغامضة" في مصر
هذا المقال بقلم بسمة عبد العزيز، طبيبة وكاتبة مصرية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
قامت الثورة فجأة، وارتفعت جموع الناس بطموحاتها إلى عنان السماء، ثم هبطت بها أيضًا فجأة، واستسلمت إلا قليلا، ورجعت عن فورة آمالها، ورضيت بسبات مرحليّ جديد. وصف البعض الحراك الثوريّ في يناير 2011 بإنه مُحاكاة سطحية لثورة، أو إنه مقدمة لأخرى لم تقم بعد. سواء كان الوصف حقيقيًا أو متجاوزًا، فثمة غموض يُكلل الموقف برمته. هناك ثورة باعتراف السلطة الحاكمة، وهي ثورة نتج عنها دستور يحميها وقوانين تُدين مَن يُنكرها أو يهينها، جرت محاكمات مطولة إرضاءً لها، وصار لها عيدٌ أو شبه عيد، ومع ذلك يدرك أغلبُ أصحابها إنها فشلت في تحقيق ما قامت مِن أجله فشلا مُروعًا، هؤلاء بعضهم في السجون، وأكثرهم مُقيم في حالِ الإحباط والاكتئاب، وأقلهم لايزال على الأرض يقاوم، لكن أساليبَ المقاومة وطُرُقَ التنظيم لم تتبلور لتشق لها مسارًا متماسكًا ومؤثرًا بعد.
كل شيء يبدو غامضًا وواضحًا في آن. المعلومات متوافرة وهناك وثائقٌ وقرائنٌ وشهودٌ، لكن المحاكمَ لا تعتدّ بها. لجان تقصّي الحقائق تؤدي عملها، لكن تقاريرَها تبقى مَخفيّة، وأعضاءَها ممنوعين مِن الحديث حول ما تقصّوه؛ وفي تقارير لجنتيّ ماسبيرو والثلاثين مِن يونيو أبرز مثال. الأموال منهوبة لكنها لا تعود، وأبطال الفساد يطلون مبتسمين مؤيدين للثورة، الضحايا يسقطون، والجناة ينالون البراءة ويبقى الفاعلُ مَجهولا فيما هو معروف، وفي بعض الأحيان تُلصَقُ الاتهامات بمن يُتفَق على إبعادهم عن الساحة السياسية دون دلائل وبراهين، لكن قسمًا لا بأس به مِن الجماهير- وبعضه مِن أهل الميادين- يرغب في المشاركة والتصديق.
***
تظل ثنائية (نحن) و(هم) الطريقَ الأكثر بساطة لتصوير الأعداء الوهميين، واختلاق الأزمات الداخلية واستغلالهما، وهي تخضع بين الحين والحين للفحصِ والتنقيح، يُعاد التصنيفُ على أُسسٍ جديدة؛ أو ربما هي قديمة – جديدة لتناسب الواقع المُتغير، ولا تضطلع السلطة وحدها بعملية الفرز، لكن المجتمع نفسه وعلى غير المُعتاد يدخل طرفًا فاعلا، ليشارك بإيجابية في عملية الإقصاء والنبذ، أو الاحتضان والمسامحة، ربما بكثير مِن المشاعر وقليل مِن الموضوعية، ويبدو إن التذبذب والارتباك في إصدار الأحكام، والمُبالغة في أحيانٍ كثيرة، سواء بالنسبة إلى الموقف مِن الثورة نفسها أو تبعاتها، منبعه غياب التحليل المنطقيّ، المبنيّ على مُعطيات واضحة، وشيءٍ مِن الاتساق، وقليل مِن أخلاقيات المواجهة مع الذات. أما الميل إلى تبنّي الخيارات المُجرَّبة مِن قبل، رغم عدم تحقيقها النجاح المطلوب، فربما أفضى إليه شعورٌ سريعٌ بالإنهاك، ورغبة مُلحّة في العودة إلى نقطة الثبات، واستعدادٌ عميقٌ لإلقاء مسئولية التغيير وعبئه على سلطةٍ قادرةٍ مُهيمنة.
***
ما لن يعود كما كان قبل الخامس والعشرين من يناير، حتى في ذروة الارتداد عن الأماني والطموح، وفي ذروة التعمية وفرض حال الغموض؛ يتخلص في شعور الناس بالقوة، والقدرة على الفعل، على المستوى الجمعيّ وعلى المستوى الفرديّ أيضًا، وفي سقوط أقنعة الرضاء بما هو كائن وموجود ودخول المفردات والمصطلحات الحقوقية في مجال الخطاب اليوميّ بكثافة، وتنامي الاستعداد لإعلان الرفض واتخاذ المبادرات الاحتجاجية، وأخيرًا انكسار الهالة التي تحيط بصورة الأب في مواقع السلطة المتباينة، صحيح إن الصبر لايزال آلية مفضلة لكنه صار أقل مرونة وقابلية للاستخدام والتطويع.
***
ثمة حاجة إلى الكفّ عن استخدام الإنكار باعتباره وسيلة من وسائل التعايش مع الواقع؛ لا معجزات خارج إطار العلم والمنطق، لا سلطة دون رقابة لصيقة، ولا هامش من الرفاهية يسمح بوجود حاكم مُفوَّض بلا قيد أو شرط، وأظن إن تناسي الأخطاء ليس حلا منجزًا، إذ يغري دومًا بتكرارها، كما لا يمكن أن يظل الاستسهال طابعاً مميزاً للأداء وسط حراك ثوريّ مستمر. لازالت هناك حاجة إلى بذل جهود أكبر في اتجاه المكاشفة الكاملة، المشفوعة بالمحاسبة، في سبيل إحداث هِزّة حقيقية تنتشلنا مِن مستنقع الركود وتبادل الاتهامات. الفرصة لا تزال سانحة، والتخلّي عنها لا يجب أن يكون خيارًا.