إنجي نوحي تكتب عن "دور تركيا في الشرق الأوسط"
هذا المقال بقلم إنجي نوحي، باحثة بقسم العلاقات الدولية بجامعة غازي - تركيا، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
تناقضت التحليلات في الداخل التركي بالنسبة لمستقبل العلاقات مع مصر، إلا أن الكثير من المحللين ينادون بأن السياسة الخارجية التركية كانت دائمًا ما تحافظ على براغماتيتها للحفاظ على علاقات متوازنة بين الشرق والغرب، واضعة في الاعتبار أن المصالح وتوازن القوى هي المحاور الأساسية التي يجب أن تقوم عليها السياسة الخارجية لأي دولة، لا سيما تركيا - التي يفرض عليها موقعها كدولة تشغل موقعًا مهمًا في الشرق الأوسط المليء بالتناقضات والأزمات وتسعى في الوقت ذاته للدخول للاتحاد الأوروبي - أن تدير سياسة خارجية برجماتية من الدرجة الأولى.وعلى الرغم من التجارب السيئة المتكررة في سياستها الخارجية تجاه العرب لا تزال تركيا مصرة على لعب دور الوصي على بلدان المنطقة لتحاول إملاء الصواب والخطأ، مما يقابله ردود فعل عنيفة أحيانًا. ربما كان هذا الدور في البداية حقًا منحته الولايات المتحدة لتركيا بعد الثورة الإيرانية، وتحولها لدولة إسلامية معادية للولايات المتحدة، لتكون تركيا حليفتها ويدها في المنطقة التي تحرك بها مجريات الأمور للحفاظ على مصالحها. بيد أن الأمور بدأت في التغير بعد أن تحولت تركيا عن دورها كراعي لدور الغرب في المنطقة، لتحاول الدفاع عن مصالحها الوطنية في المقام الأول متجاهلة مصالح حلفائها الغربيين.
العلاقات التركية – العربية
الحقيقة أن الوضع الراهن في العلاقات بين تركيا ومصر ليس بالأمر الجديد في تاريخ العلاقات بين البلدين. فقد حاولت تركيا من قبل لعب دور الأخ الأكبر والوصي في المنطقة من خلال سياسة الترغيب والترهيب للدفاع عن مصالحها الوطنية. فبشكل عام يمكن القول بأن سياسة تركيا تجاه الوطن العربي ومصر تحديدًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مرت بثلاث مراحل رئيسية. المرحلة الأولى كانت في خمسينات القرن الماضي، حينما كانت تركيا تسعي لمحو ملامحها الشرقية والتخلص تمامًا بكل ما يربطها مع الإسلام، والتوجه بكل قوة نحو الغرب. حتى أن المحللين والمؤرخين الأتراك يصفون تركيا في تلك الفترة أنها كانت تنتهج سياسة غربية أكثر من الغرب نفسه. المرحلة الثانية كانت في الستينات والسبعينات، وتحديداً بداية من أزمة قبرص 1963 وانتهاءً بأزمة البترول 1973. حيث كانت قبرص بمثابة نقطة تحول جذرية في السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق والغرب معاً. حين وجدت تركيا نفسها وحيدة أمام الغرب بعد أن قطعت علاقاتها مع الدول العربية، فتوجهت لإعادة رسم سياستها الخارجية لتكون أكثر توازنًا ومرونة. ورغم أنها حاولت التقرب من العرب من خلال مواقفها الداعمة لهم في حروبهم مع اسرائيل إلا أنها لم تنجح في إدارة سياسة فعالة معهم في تلك الفترة، وذلك بسبب المشاكل والأزمات التي كانت تعصف بالداخل التركي.
سياسات تركيا هذه نجحت في أن تمهد الطريق للمرحلة الثالثة (وهي مرحلة ما بعد 1973). حيث لعبت أزمة البترول دورًا محوريًا في ترسيخ أهمية تعزيز العلاقات التركية مع الشرق الأوسط. حيث كان البترول بلا شك السبب الرئيسي وراء دفع تركيا لتحسين علاقاتها مع الدول العربية، خصوصًا بعد ارتفاع أسعاره، ووصول فاتورة واردات البترول من الخارج لعدة مليارات بعد أن كانت لا تتجاوز 300 مليون دولار عام 1972. وهو ما جعل تركيا تعجز عن تسديد التزاماتها النقدية، مما تسبب في زيادة قيمة العجز في الميزانية للعام 1977 بشكل كبير، وهو ما أجبر صناع القرار في أنقرة على إعادة النظر في سياساتهم تجاه العرب، وتضعها في مرتبة عليا على قائمة أجندة السياسة الخارجية.
تركيا والعرب بعد الربيع العربي
بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، يمكن القول بأن هناك عدة عوامل شجعت تركيا على الإسراع لمحاولة فرض سياستها كأخ أكبر في المنطقة، والاستفادة من الاهتزازات الإقليمية التي تسببت في إحداث تغيرات في التوازن الاقليمي والدولي. منها ظهور تركيا كقوى اقليمية كبيرة، نتيجة الاستقرار النسبي والأمن والقوة الاقتصادية التي تنعم بها، مقارنة بالقوى الإقليمية الأخرى في المنطقة كإيران ومصر التي تعانيان من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة. ثانيًا، اهتزاز مكانة ونفوذ الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة والغرب، وما صاحبه ذلك من تعميق لصورة الولايات المتحدة كالشيطان الأكبر أمام شعوب الشرق الأوسط الرافضة للنفوذ الغربية في بلدانهم، ثالثًا، وصول الإخوان المسلمين للحكم في مصر وقبولهم للوصاية التركية في المنطقة بصدر رحب. كل هذا تسبب في إحداث فراغًا حاولت تركيا أن تملأه سريعًا، وأن تستفيد منه، متجاهلة مصالح الغرب والدول العربية ذاتها، مما أثار حنقهم لشعورهم بتهديد تركيا لهم، خصوصاً دول الخليج العربية، بعدما أصبحت قوة لا يمكن تجاهلها.
لا يمكن إنكار أو تجاهل حقيقة أن القوى الغربية خاصة الولايات المتحدة، التي رأت أن عليها الإسراع في ملئ الفراغ الذي أحدثته اهتزازات الربيع العربي واستعادة دورها في المنطقة، كانت وراء تدخل الجيش ضد حكم جماعة الإخوان، الحليفة لتركيا، بعد أقل من عام واحد من وصولها للسلطة. والمثير للشكوك أيضًا تلك المظاهرات التي اندلعت في تركيا لزلزلة النظام التركي وإسقاط حكومة العدالة والتنمية ضمن قضايا الفساد التي فجرت الخلافات في الداخل التركي، إلا أن تلك المظاهرات وقضايا الفساد، رغم قوتها ونجاحها في تعميق الاستقطاب في الداخل التركي مما يجعل اندلاعها مرة أخرى احتمالاً واردًا في أي وقت، لم تنجح في إثناء الحزب الحاكم عن سياسته التي مازال مصرًا على انتهاجها على الرغم من تحول الربيع العربي لشتاء قارص يعصف بكل ثماره.
تركيا ومصر بعد 30 يونيو
لا شك أن الموقف التركي الصارم تجاه مصر بعد أحداث 30 يونيو، كان له الكثير من مؤيديه في الأوساط التركية في البداية، سواء من قبل الحزب الحاكم أو المعارضة، وذلك لما للأتراك من تجارب سيئة مع الانقلابات في تركيا، والتي كانت تطال الجميع بلا استثناء. إلا أن الأمر بدأ يتغير مع الوقت، خصوصًا بعد أن بدأت تركيا في الشعور بالوحدة بين دول المنطقة مرة أخرى.
في البداية خرج البعض ليصرح أن وضع تركيا في المنطقة يمكن وصفه بـ "الوحدة القيـّمة" Değerli “Yalnızlık في محاولة للتبرير للموقف التركي ودعمه أمام الرأي العام. إلا أن الكثير من المحللين السياسيين الأتراك بدأوا في مراجعة مواقفهم تجاه رفض الحكومة الصارم في التعامل مع مصر بقيادة السيسي. حتى أن الأصوات التي كانت منذ عهد قريب تساند الموقف التركي بدأت في التصريح أنه ربما كانت السياسة التركية تجاه مصر السيسي موفقة وصائبة من الناحية الأخلاقية، إلا أنه منذ متى كانت السياسة الخارجية تهتم بالقيم الأخلاقية؟! ويضيفون أن السياسة الخارجية ما هي إلا المترجم لمنافع الدولة ومصالحها مع الدول الأخرى، وأن المواقف الأخلاقية طويلة المدى سرعان ما تنقلب على مصالح الدولة نفسها.
العقلاء في أنقرة ينصحون بأن تركيا عليها أن تقوم بوضع جدولاً زمنيًا لاحتواء الأزمة بينها وبين مصر، والتخلي عن سياسات مثالية مثل " لا تضع يدك بأيدي الأشخاص السيئين". وأنه في الفترة الراهنة يجب على انقرة التوقف عن التعامل مع مصر بصورة مانوية، تنحصر بين الإخوان المسلمين والسيسي، وأن تعمل على فتح قنوات أخرى في الداخل المصري لإعادة المياه لمجاريها واستعادة العلاقات الثنائية بين البلدين، والعودة لسياسة تركيا التي نجحت في جعلها قوة إقليمية لا يستهان بها، طالما كانت أولوياتها قائمة على المصالح الاقتصادية والبراغماتية، وبعيدة كل البعد عن أي مقاربات أيدلوجية أو عاطفية.