بعد أحداث مصر "الارهابية".. أسئلة استجدت في شرعية التفويض للسيسي
هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
بعد مجزرة العريش الإرهابية بحق جنود الجيش المصري الأبيّ، فُجعنا بحادثة جديدة تعرض فيها ٢٢ مشجعا للقتل قبل مشاهدة إحدى مباريات الدوري. وبين الحادثتين كان نفر من المهيجين يدعون الناس إلى ما أسموه "تجديد التفويض للرئيس السيسي" فجاءت الاستجابة مخيبة للآمال! هنا نستدعي أسئلة ثلاث، الأول يتعلق بأسباب هذه الاستجابة المحدودة، والثاني يتناول الحاجة إلى تجديد صلاحية التفويض، أما الأخير فيتناول مستقبل شرعية حكم النظام الحالي في ظل الأوضاع المضطربة الحالية. وفي الملاحظات العشر التالية محاولة للإجابة.
أولا: شرعية التفويض هي الشرعية التي كان ولا يزال يحكم بها الرئيس الحالي البلاد منذ يوليو ٢٠١٣. نعم الرئيس الحالي حكم البلاد فعليا قبل ما يقرب من عام من توليه رسميا رئاسة البلاد، فالإستجابة الكبيرة لطلبه التفويض كانت له هو شخصيا وتعبيرا من غالبية الجماهير التي نزلت لتفويضه عن ثقتها فيه هو فقط دون غيره. في هذه اللحظة لم يكن هناك أثر فعلي لا لرئيس الجمهورية المؤقت أو لنائبه أو لرئيس الوزراء أو للحكومة بأسرها. كانت لحظة تولى فيها السيسي الحكم وأصبح التأييد له هو والخصومة كذلك، ولم تكن لحظة فض الاعتصامات برابعة والنهضة وما تلاها من انتهاكات سوى تأكيد لهذه الشرعية الجديدة. وكل ما حدث منذ أغسطس ٢٠١٣ وحتى إعلان السيسي ترشحه للانتخابات لم يكن أكثر من ترتيبات للمسرح السياسي الذي تم تأليفه وإخراجه مسبقا.
ثانيا: كانت شرعية التفويض بمثابة لعب بالنار وتلاعب بمستقبل وطن لا يحتمل المقامرات. فهي من ناحية أحرقت المؤسسات وجعلتها مجرد ديكور لزوم "الشوو" السياسي. ومن ناحية أخرى فقد أحرقت باقي ترتيبات ماعرف بخارطة الطريق والتي تحولت إلى مجرد شكليات لاستكمال الديكور الديمقراطي. لم يعد من الممكن، بعد التفويض، تخيل أن يقال للدستور "لا" تحت أي ظرف. لم يعد من الممكن، تحت شرعية التفويض، أن نشهد انتخابات رئاسية تعددية حقيقية ولنا في النتيجة ألف عبرة. تحت شرعية التفويض أيضا لم يعد للانتخابات البرلمانية أثر كبير على المسار السياسي الذي وقع مبكرا تحت الهيمنة الأمنية، ومن هنا تم إعداد قوانين مثيرة للجدل ضربت المنافسة الانتخابية والحزبية في مقتل.
ثالثا: ارتباطا بالنقطة السابقة فإن النتيجة المباشرة للتفويض لم تتجسد فقط في حرق المؤسسات وخارطة الطريق، ولكنها امتدت أيضا لتحرق كل الشخصيات التي يمكن أن تكون منافسة للرئيس من قريب أو بعيد. تحركت فورا آلات الاغتيال الإعلامي التي تدعي الحرفية زورا لتدهس أي شخصية بدت وأنها قد تشكل أي تحدى محتمل لشعبية الزعيم. وكان من نتيجة ذلك أيضا أنه وللهيستريا الشعبية المدفوعة بمكانة الإعلام والتحريض والفاشية أن تجمد الحراك، أي حراك شعبي، سواء في أوساط العمال أو الطلاب والشباب وغيرهم من الفئات المجتمعية. وتم اعتبار هذا الحراك من الأعمال التي تهدد سيادة ووحدة البلاد. ومن هنا زُج بالآلاف في السجون بتهم متنوعة أقلها شأنا يقود صاحبة إلى "تأبيدة"، إن لم يكلفه رقبته.
***
رابعا: امتدت ورقة التفويض الحارقة لتطال عددا معتبرا من المفكرين والكتاب والمثقفين والفنانين وغيرهم من الشخصيات العامة. فهؤلاء جميعا متأثرين باللحظة الهادرة قرروا، إلا من رحم ربي، استخدام خلطة من كهنوتهم التنويري المدني العلماني الحداثي في تبرير كل خروقات القانون والدستور، ثم اسمعونا صمتا رهيبا وهم يرون عناصر من النظام تتورط علنا في الدجل العلمي والمعرفي بل وفي الشعوذة. حاول بعضهم حفظا لماء الوجه الهمس عتبا وأملا في تصحيح هذا الدجل لكن قطعا بعد فوات الأوان.
خامسا: قتلت ورقة التفويض كل معاني وقيم الشفافية والمحاسبة والمسئولية وسيادة القانون ومن قبله الدستور. أصبح الجميع يعلم أن هناك شخصيات محمية من أي وسائل محاسبة ومساءلة أمام الرأي العام. أصبح الجميع يعلم أننا سنضحي بالبشر من أجل الحجر، وأن ما يقال عن هيبة الدولة هو في الواقع هيبة النظام وشبكاته وعلاقاته. لكن كيف الجرأة علي الكلام واتهامات العمالة والخيانة تلاحقه. هنا تم اسكات الجميع، فإن كنت من المتورطين في دعم ورقة التفويض فعليك أن تتظاهر بتصديق القصة حتى النهاية وربما تلعب دورا فاعلا في نشرها وترويجها أو أن تسكت وتنسحب. أما إن قررت الكلام، وقليل من الناس امتلك الشجاعة وفعل، فمصيرك التشويه لا محالة.
سادسا: تحولت ورقة التفويض بمرور الوقت إلى ما يشبه عملية القصف بالنيران الصديقة، فالتفويض بالمعنى السياسي يعني إخلاء طرف المفوِض من التبعيات والمسئوليات، ويعني أنه ترك المسألة مفتوحة لحامل التفويض ليفعل ما بدا له. ومن هنا فإنه حين يقول المفوَض لمن فوضه لن أفعل ذلك وحدي فقوله غير مقبول بالطبع.
***
سابعا: في تقديري، ظلت شرعية التفويض حاضرة لمدة استمرت لما يقرب من العام ونصف العام لأسباب ثلاثة: أولها استمرار الأعمال الإرهابية التي دعمت من شرعية التفويض ووفرت له مبررا للاستمرار، ثانيا ما وفرته الآلة الإعلامية الجبارة من غطاء قويا لأي عمل مهما كان باسم هذا التفويض، بالإضافة إلى خليط من الأمل والرجاء والخوف الذي دفع الناس للانتظار والصبر لعل فارس أحلامها البطل القومي يمتطي جواده ليختطفها من براثن المجهول. لكن ماذا حدث؟
***
هنا تأتي الملاحظة الثامنة، عام ونصف العام كان مدة كافية لتبدأ تناقضات التفويض الداخلية تظهر على السطح. كانت أيضا كافية لإثبات أن التفويض كان مجرد خدعة كبرى. قتل السياسة وأمم الحراك وأضعف المعارضة وفشل في تحقيق أهم أهدافه ألا وهي جلب الاستقرار بمعناه الأمني والاقتصادي. إن استمرار التهديدات الأمنية المصحوبة بالصعوبات المعيشية، والمحاطة بالمظلوميات المحفورة في الذاكرة الوطنية، بالإضافة إلى اهتزاز البطل وعدم قدرته على تحقيق، كشفتا أسطورة وكهنوت التفويض. عندها ظهر تململ بين مناصريه بدأ في شكل لوم وعتاب ثم تحول للتلميح والتصريح ثم الهجوم على النحو الذي نراه الآن.
تاسعا: هل الحل إذا في تفويض جديد؟ الحقيقة هذا هو بالفعل ما تفتق عنه ذهن عباقرة الوطن من المحللين الاستراتيجيين "إياهم" في محاولتهم دفع الناس إليه فلاقوا فشلا ذريعا. قد يقول قائل ربما كان السبب أن الدعوة هذه المرة لم تأت من الرئيس ولو كان فعلها ثانية لاستجاب له الناس. ربما كان هذا الافتراض صحيحا نسبيا فدعوة الرئيس لتفويض جديد ربما جاءت بعدد أكبر من المفوضين عن هذا العدد الضئيل الذي رأيناه. ولكني مازلت أعتقد إنه لن يكون في نفس عدد المرة الأولى، فضلا عن إنه سيكون بمثابة إعلان فشل ذريع للرجل إذ أن التفويض الأول لم تكن له صلاحية انتهاء ولا سقف زمني وهذه هي المعضلة. هو يعرف ذلك والمفوضون يعلموه أيضا فما المخرج من هذه المعضلة؟
عاشرا: جرت العادة على أن صاحب المشكلة هو المنوط به حلها، ومن صنع شرعية التفويض عليه الآن البحث عن وسائل لإطفاء نارها قبل أن تطاله. ورغم ذلك ولأن الوطن هو وطننا جميعا فنقدم النصيحة لأجهزة الحكم إن أرادت أن تسمع .. إن كنتم جادين في الإصلاح فعليكم أولا الإعلان رسميا عن انتهاء صلاحية التفويض، عليكم بدء عملية ديمقراطية إصلاحية إدماجية شاملة تزيح وتحاسب من تورط في الدم مهما بلغ اسمه أو علا منصبه، وتعيد رسم خارطة طريق جديدة تبنى على العدل والقانون وهيبة البشر لا الحجر. الآن الكرة في ملعبكم وإن لم تحسنوا التصرف بها فستذهب إلى غيركم يوما ما، قرب أو بعد، ووقتها لن ينفع الندم كما لم ينفع غيركم.