العناصر العالمية لأزمة الديمقراطية
هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
هل ثمة وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب في إدارة شؤونها الداخلية بالقيم الديمقراطية "الوطنية" المتمثلة في سيادة القانون، في تداول السلطة عبر الاختيار الحر للمواطن وعبر مشاركته الطوعية في الحياة السياسية كنشاط سلمي وتعددي وحر يحدث داخل حدود المجتمع والدولة ويهدف لتحديد جوهر صالح المواطن والمجتمع والدولة – الصالح العام - وإدارة التفاوض بين النخب النافذة بغية بناء التوافق بشأن استراتيجيات وأدوات تحقيق الصالح العام، في صون حقوق الإنسان والحريات، في قبول الآخر المجتمعي والتسامح مع الاختلاف ونبذ التعصب والتطرف والعنف، في مناهضة التمييز ومظالمه التي يرتبها العجز عن إقرار (القانون) وتفعيل (الممارسة) المساواة الكاملة بين مواطنات ومواطنين يختلفون في النوع كما تتفاوت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وقد يختلفون في العرق والدين والمذهب والقناعات والأفكار وكما تتفاوت حظوظهم من التعليم والعمل والثروة؟
هل ثمة وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب فيما بينها بالقيم الديمقراطية "العالمية" المتمثلة في تجنب الحروب والصراعات المسلحة والمواجهات العسكرية، في رفض تجدد معاناة البشرية المعاصرة من جراء المذابح وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وسقوط الأبرياء ضحايا للحروب الأهلية – المدفوعة بصراعات الموارد كما بصراعات العرق والدين والمذهب – وضحايا لجنون الإرهاب ولانتهاكات حقوق الإنسان ومن ثم التدخل الجماعي / التوافقي للحيلولة دون نشوب هذه الشرور أو لاحتوائها حال النشوب، في العمل الجماعي / التوافقي باتجاه تخليص البشرية المعاصرة من أزمات الفقر والمجاعات والأوبئة العابرة لحدود المجتمعات والدول وباتجاه حمايتها من الأخطار البيئية والأخطار الناجمة عن توظيف التقدم العلمي والتكنولوجي في مجالات سلمية كالطاقة النووية وأخرى غير سلمية كتطوير الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، في الامتناع الطوعي للمجتمعات المتقدمة أو الغنية ولدولها عن العصف بمقدرات المجتمعات والدول الضعيفة أو محدودة مصادر التقدم والثروة وتكريس تبعيتها والتعامل معها في أطر إقليمية ودولية جوهرها المساواة والشراكة والتنمية المتوازنة والتمكين، في التوافق على ترتيبات فعالة للحفظ السلم والأمن إقليميا وعالميا وفي إقرار حق كافة الأمم والشعوب في تقرير المصير والسيادة الوطنية وفي مواجهة النزوع العدواني – عسكريا كان أو اقتصاديا أو سياسيا أو استيطانيا - لبعض المجتمعات والدول ورغبتها في إخضاع جوارها المباشر أو العالم بأسره؟
بعبارة بديلة، هل ثمة وزن حقيقي في المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب بالقيم الديمقراطية بعيدا عن احتفاليات توقيع المواثيق والعهود العالمية لحقوق الإنسان وللحريات وجلسات التصديق عليها في البرلمانات المنتخبة ومسخها المعين، بعيدا عن بعض نقاشات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها وأنشطة المجلس الأممي لحقوق الإنسان وبعض الوكالات الأممية المتخصصة، بعيدا عن نمطية إعلان حكومات الغرب الأمريكي والأوروبي عن برامج "لدعم الديمقراطية" ولتنشيط "جهود التنمية المستدامة" وعن مخصصات مالية لهذه البرامج، بعيدا عن تقليدية تشديد مجتمعات ودول كبرى كالصين وروسيا على ضرورة المزج بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبين الحقوق والحريات الشخصية والمدنية والسياسية وعلى حتمية صون السيادة الوطنية للمجتمعات وللدول غير الغربية وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عن التذرع بانتهاكات الحقوق والحريات للتدخل في شئونها، بعيدا عن استنساخ الخطاب الرسمي للعدد الأكبر من حكومات بلاد العرب للمقولات الصينية والروسية وإضافة شيء من حديث "خصوصية المجتمعات والدول العربية" إليه لكي تهمش انتهاكات الحقوق والحريات والمظالم المتراكمة وتحتكر الحكومات منفردة تعيين مقتضيات الحفاظ على الاستقرار والأمن وتماسك الدول الوطنية وتدعي استحواذها وحدها على المعرفة الواقعية والعملية بضرورات تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التنمية المستدامة؟
حتما سيدفعنا البحث عن إجابات موضوعية على مجموعات التساؤلات هذه إلى إدراك أن الفكرة الديمقراطية تمر لجهة قيمها "الوطنية" كما لجهة قيمها "العالمية" بأزمة عاصفة، وإلى التثبت من عودة أفكار كبرى أخرى لمنازعتها المصداقية الأخلاقية والإنسانية في أطر إقليمية ودولية متنوعة، وإلى الاعتراف بأن خطاب "الانتصار النهائي" للديمقراطية – في صياغتها الليبرالية المرتبطة بالمؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة وباقتصاد السوق الحر وبالمبادرة الفردية – لم يعد له ذات التوهج المعرفي والمجتمعي والسياسي الذي كان له في خواتيم القرن العشرين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار الكتلة الشرقية بحكومات الأحزاب الواحدة واقتصاديات التخطيط المركزي. وسيقتصر تناولي اليوم لأزمة الفكرة الديمقراطية على عناصرها ذات الصلة بالغرب الأمريكي والأوروبي الذي مازالت حكوماته تدعي الالتزام بالقيم الديمقراطية وطنيا وعالميا وتنكر النواقص الهيكلية التي ترد عليها، على الرغم من تنامي إدراك الرأي العام والنخب الفكرية والأكاديمية والمجتمعات المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الاتحاد الأوروبي لهذه النواقص وتداعياتها الخطيرة. وعلى أن أتناول في مقال السبت المقبل بإذن الله عناصر أزمة الديمقراطية خارج الغرب.
فالولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، وهي كانت تأتي تقليديا في طليعة المجتمعات والدول التي يشار إليها إيجابيا فيما خص الالتزام بقيم سيادة القانون وتداول السلطة وصون الحقوق والحريات في إدارة الشئون الداخلية، تواجه اليوم عصفا منظما بالفكرة الديمقراطية – تراجعات متراكمة لسيادة القانون بسبب نزوع حكومات الغرب الأمريكي والأوروبي المنتخبة للتغول أمنيا على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة وتمرير التشريعات الاستثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية المواطن باختزاله في وجود فردي وجماعي يتعين مراقبته وضبطه وبالتبعية السيطرة عليه، هيمنة النخب الحزبية والسياسية والإدارية والمصالح الاقتصادية والمالية على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة واستبعادها لقطاعات شعبية واسعة لا تستدعى للتأثير في تحديد صالح المواطن والمجتمع والدولة وفي عمليات صناعة السياسة العامة إلا في مواسم الانتخابات وانفصال المؤسسات المنتخبة عبر حواجز وأسوار بيروقراطية متعددة، الفوارق الاقتصادية والاجتماعية متواصلة الاتساع بين الأغنياء وميسوري الحال في الغرب وبين محدودي الدخل والفقراء التي يرتبها الانقلاب على سياسات الرفاه والتخلي عن الكثير من إجراءات العدالة الاجتماعية في سياق الصعود السريع للرؤى النيوليبرالية (أو الطبعة المتوحشة للرأسمالية كما أسماها عالم الاقتصاد المصري الراحل الدكتور رمزي زكي) ومن ثم تبلور حقائق مجتمعية جديدة جوهرها التمييز ضد قطاعات شعبية واسعة، احتكار النخب الحزبية والسياسية والإدارية والمصالح الاقتصادية والمالية للمجال العام وانغلاق مساحات المجال العام – خاصة الإعلامية – على الرؤى والأفكار التي تتداولها هذه النخب والمصالح واستبعادها المنظم للخارجين عليها.
كذلك يتعرض التزام الغرب الأمريكي والأوروبي بالقيم الديمقراطية "العالمية" لتآكل كارثي مصدره انتهاكات حقوق الإنسان التي تورطت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة وبعض الحكومات الأوروبية خاصة تجاه البلدان العربية والإسلامية وضياع المصداقية الأخلاقية والإنسانية لحديثها عن دعم الديمقراطية خارج حدودها، "الحروب المتتالية على الإرهاب" التي تشنها الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوروبية خارج حدودها ويضرب في سياقاتها عرض الحائط بسيادة القانون وضمانات الحقوق والحريات وبحتمية المزج بين الأدوات العسكرية والأمنية وبين الأدوات القانونية والتنموية والمجتمعية، الإخفاق المتراكم للسياسات التنموية الأمريكية والأوروبية تجاه المجتمعات والدول غير الغربية التي لم تخرج من تبعيتها إلا في حالات استثنائية وشديدة الخصوصية – كما في الصين وتدريجيا في البرازيل والهند، واستمرار نزوع الولايات المتحدة وبدرجات أقل بعض الحكومات الأوروبية للسيطرة على ترتيبات الأمن الإقليمي والعالمي عبر الانتشار العسكري في قواعد عديدة وعبر مواصلة إنتاج وتطوير العتاد التقليدي وأسلحة الدمار الشامل وعبر تصدير السلاح لحكومات ولأطراف غير حكومية دون ضمانات ديمقراطية بل ودون ضمانات أمنية حقيقية.