جميل مطر يكتب لـCNN: دور لمصر في الرواية الجديدة
هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
عشت السنوات الأخيرة أنتظر الإعلان عن نهاية صلاحية النظام الإقليمي العربي. كنا، على الدين هلال زميل الدراسة وأنا، قد تنبأنا قبل خمسة وثلاثين عاما بأن نهاية صلاحية النظام سوف ترتبط بتوافر شروط معينة، اعتقد الآن أنها توافرت، وحق علينا واجب الاستعداد لمواجهة لحظة سقوط النظام القائم وظهور النظام البديل.
حانت ساعة الرحيل، تؤشر لها ثلاث أزمات حادة وجوهرية: أزمة انحسار عقيدة النظام، وأقصد العروبة، وأزمة افتقاد مؤسسات النظام، مثل الجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة إلى الرضاء القومي العام، على المستويين الحكومي والشعبي، وأزمة ثالثة ناتجة عن اختراق واسع الشأن وعميق الأثر من جانب دول في الجوار لحدود النظام الخارجية، وبعدها إلى الحدود الداخلية، أي إلى أعماق الحياة السياسية العربية.
كانت المؤشرات واضحة منذ وقت غير قصير، ومع ذلك استمر إصراري على أن معظم المؤشرات أدلة غير مقنعة وقاطعة بضرورة إعلان النهاية ومستنكرا الدعوات المتكررة لترحيل النظام واستدعاء غيره. اعتقدت أن العنف وغيره من مظاهر عدم الاستقرار التي رافقت الإجراءات الجاري اتخاذها نحو إنهاء عروبة النظام، سوف تمهد لعنف أشد خلال مرحلة الانتقال من نظام عربي إلى نظام آخر، أو نحو وضع أسوأ بكثير، وأقصد نحو فراغ اللابديل.
جئت بهذه المقدمة المطولة بمناسبة قرب انعقاد دورة جديدة لمؤتمر القمة العربي، عنوان الدورة الأمن القومي العربي. لا أشك للحظة في أن العنوان، كان اختيارا مناسبا عندما بدأ التفكير فيه. بعضنا يعلم أن الموضوع مطروح على القمم العربية ومجالس الجامعة والقيادات العسكرية والدبلوماسية العربية منذ سنوات عديدة، وأنه ووجه في كل المرات بعقبات تعجيزية . وها هي مصر تعود فتطرحه، ولديها أسبابها ومخاوفها، وها هي الأمانة العام للجامعة تتبناه ولديها هي الأخرى أسبابها وأهدافها. أكاد أجزم، بناء على قراءتي وليس استنادا لمعلومات، أن من بين هذه الأهداف، أو في صدارتها، الرغبة في اقتناص الفرصة لعل وعسى تقتنع الدول الأعضاء بضرورة صرف النظر عن خطط ونوايا ترحيل النظام العربي القائم وتأسيس نظام بديل. في ظني، كما في ظن بعض أقرب المتابعين لشئون الجامعة العربية، أنها قد تكون آخر فرصة.
****
طرح الفكرة اختيار مناسب كالعهد به في أوقات الأزمات السابقة، ولكنه يأتي هذ المرة متأخرا، بل وأتوقع أن تعتبره دول عربية معينة غير مناسب.. الموضوع، وأقصد موضوع الأمن القومي العربي، ما يزال في حد ذاته وبالمنطق والعقل مطلوبا، ومايزال بالعاطفة مرغوبا، لا لشيء إلا لأن الهوية الغالبة حتى الآن في المنطقة ما تزال حتى لحظة كتابة هذه السطور عربية . أسمع وأقرأ من يقول إن واقع الحال والتطورات السياسية الأخيرة، سواء ما تعلق منها بتطور العلاقات العربية التركية، وتطور العلاقة بين إيران وأمريكا، وبين إيران ومساحة كبيرة من الأرض العربية، وشرائح واسعة من أصحاب المصالح القبلية والانفصالية، وتطور الوضع في مصر، وتخبط النوايا الغربية في اتجاهات تبدو متناقضة، والصعود المتوحش لجماعات فوضوية ترتدي ثياب خلافة، وتهديدات حقيقية لميراث وستفاليا ذي الجذور الطرية في عالمنا العربي، كل هذه التطورات جعلت توقع صدور قرار قوي وفاعل وواضح في شأن إنعاش الأمن القومي العربي، أمرا غير قابل للتحقيق في القمة العربية عند انعقادها بعد أيام.
يدفعني في اتجاه توقع ضغوط ومناورات لإحباط، وربما إجهاض، أي مشروع جديد للأمن القومي العربي تطرحه مصر أو الأمانة العام للجامعة اعتبارات أربعة على الأقل.
أولا: المشروع المقدم للقمة العربية بهدف إعادة الاعتبار لفكرة الأمن القومي العربي وتطويرها وتحديثها ونقلها إلى المستوى العملياتي، مشروع" أيديولوجي" بامتياز. الحديث عن أسلحة متطورة ونظام تسلح وفرق وقوات إنزال سريع أو بطئ وميزانيات دفاع وتحالفات عسكرية وقيادة لابد أن تكون عربية وموحدة. لا يخفي حقيقة أن المشروع» عربي «التفكير والتخطيط،» عربي« التشكيل والتنفيذ، »عربي «القيادة،» عربي «التمويل . مشروع »عربي« في وقت كادت تغيب هوية الإقليم . حلت محلها في مواقع بعينها هويات أعلى، وحلت محلها في مواقع أخرى هويات أدنى . وجميعها هويات محروسة من الخارج أو مدعومة منه . هناك من يعتبر الفكرة التفافا خطيرا لاستعادة قوة "العقيدة العروبية" . هذه العقيدة كانت في حد ذاتها وعلى مدي عقود حافز دفاع ورصيد أمل . العودة إليها ربما حملت معنى الرغبة في المحافظة على عروبة النظام، ومواجهة خطط استبداله.
للخائفين على عروبتهم عذرهم، فالخريطة الراهنة لتوزيع النفوذ في الشرق الأوسط أحسن دليل على أن القوى المتحكمة حاليا في تفاعلات المنطقة بأسرها "إسلاموية" التوجه . هذه القوى، دول أو أحزاب أو عصابات، نجحت في أن تجعل التشدد والتطرف الفكري عقيدة وتجعل الإرهاب سوطا لإخضاع الأمة العربية وإجبارها على الكفر بعروبتها وتتوسل العون من الخارج. نجحت أيضا في أن تطرح على خريطة المستقبل عصرا من النزاعات والحروب الدينية، وبمعنى أدق أذنت بعصر الصراع الدموي بين المذاهب والاجتهادات الإسلامية.
ثانيا: يحتاج تمرير قرار في القمة العربية على هذا المستوى إلى أجواء عربية صافية وأجواء إقليمية هادئة، وإلى تفهم من جانب الدول العظمى المتدخلة عادة في صنع القرارات العربية الهامة. نعرف أنه لا شرطا واحدا من هذه الشروط متوفر الآن . لا الأجواء العربية صافية ولا الأجواء الإقليمية هادئة، ولا القوى الغربية متفهمة هذا المشروع تحديدا وإن أبدت تعاطفا مع تكتلات عسكرية إقليمية تقع على هواها وتحت رقابتها . ومع ذلك نعترف أن لا شرط من هذه الشروط كان متوافرا على النحو المطوب على امتداد عمر النظام الإقليمي العربي. ويبدو أنه لن يتوفر. ولكن يبقى في حوزة القيادات السياسية الموجهة للنظام العربي إمكانات عمق قومي وحشد جماهيري وتحالفات مصالح وتوازنات قوة، سمحت أكثر من مرة بتفويت الفرصة على دول الجوار للتدخل وأجبرت أحيانا القوى الدولية على الرضوخ للإرادة القومية في العالم العربي.
صحيح أن أيا من هذه الإمكانات غير متوفر الآن، أو يصعب توفيره. فالعروبة مثلا، حتى كمكون ثقافي وقوة معنوية، تعيش تحت الحصار منذ سنوات ولكن الصحيح أيضا أن الجماهير صارت تعرف كيف تحشد نفسها بنفسها ولا تنتظر، وربما لن تحترم، إشارة من نظام حاكم هنا أو هناك يذكرها بهويتها . صحيح أيضا أن التحالفات في عصر الانفلات والانفراط صارت أقرب ما تكون إلى صفقات وشراكات تجارية . أما توازنات القوة الاقليمية فقد اختلت اختلالا شديدا منذ ديسمبر ٢٠١٠، أي منذ اندلاع شرارة »ثورات الربيع العربي« وبالتأكيد صار السعي لتولى زعامة العرب في الظرف الراهن سياسة محفوفة بمخاطر وتكاليف لا قبل لنظام عربي منفرد بها سواء اختار العروبة حافزا أم قرر طمسها والقفز فوقها.
بحكم الواقع، يبدو الاقتراح بتشكيل قوات مسلحة عربية كضرب من الخيال . هناك في الخليج توجد قوات مشتركة تحت اسم درع الجزيرة، مستعدة للتدخل في بعض وليس كل أنحاء الجزيرة العربية، وليس أبعد من ذلك . جيوش سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس والسودان منشغلة، وستبقى منشغلة لسنوات طويلة قادمة، علما بأن أغلبها في حالته الراهنة لا يصلح لأداء واجبات عسكرية خارج حدودها، وأكثرها إن أتى إلى القوات العربية الموحدة فسيأتي يحمل رايات دينية أو طائفية تمنع اندماج القوات وتنقل التوتر والتعصب إلى قلب» الجيش العربي الواحد«، وتجعل حياة الأمين العام للجامعة ورؤساء أركان قواته المسلحة جحيما لا يطاق.
ثالثا: الذائع في الأوساط الإعلامية العربية، وأوساط دبلوماسية وقيادات سياسية أن المطروح على الساحة العربية والإقليمية اقتراحان، اقتراح صار معلنا، وهو الذى سيعرض على القمة العربية في اجتماعها خلال أيام .هذا الاقتراح معني بإنشاء قوة مسلحة عربية لحماية الأمن القومي العربي وتكون تحت إشراف جامعة الدول العربية . واقتراح تحت الدراسة لإنشاء حلف عسكري إقليمي يضم قوات من دول عربية ومن تركيا، يتولى المهمة ذاتها ،أي يتولى مسئولية مواجهة الإرهاب وأي أخطار أخرى محتملة مثل خطر إيران، دولة الجوار الثانية . ثم خرج من يقول" الاقتراحان مكملان لبعضهما البعض، فالأول لحماية المنطقة من الإرهاب والثاني لحماية دول عربية معينة من إيران. وهناك من الأموال والجنود ما يكفي لمواجهتين في وقت واحد."
مصر وهى القطب المنحدر نفوذه الإقليمي تتحمس للأول ولا تتحمس للثاني. والمملكة السعودية، وهى القطب الصاعد إلى قمة النفوذ في نظام عربي متهالك ومتهاوي، تتحمس للثاني خوفا من تغلغل النفوذ الشيعي في الجزيرة والمشرق . وتعتقد المملكة فيما يبدو أن تركيا أقدر من أي دولة عربية على قيادة هذا الحلف العسكري، ومن الممكن خلق مصالح لها وحوافز تشجعها على تولي هذا الدور. لا يحتاج الأمر لخبرة طويلة في العمل العربي المشترك للحكم مقدما بأن المفاوضات حول الاقتراحين ستكون شاقة، فالمصريون لن يرضوا القيام بعمل عربي بقيادة تركية وبأهداف تخدم توجهات الحزب الإسلامي الحاكم فيها، والأتراك لن يقبلوا بأقل من قيادة منفردة، تراعى الهوية المثلثة للسياسة الخارجية التركية، كما حددها رئيس وزرائها الحالي، وهى »أوروبية.. إسلامية.. تركية.«
من ناحية أخرى، لن تكون إيران سعيدة بحلف عسكري عربي تركي، يكون موجها ضدها . وأظن أنها لن تتأخر في التعبير عن نقص سعادتها بتكثيف علاقاتها وتدخلاتها الأمنية في كل موقع وصلت إليه واحتلال مواقع جديدة . ايران تشعر أنها مرشحة للعب أدوار إقليمية سوف تسمح لها بأن تتقدم علي تركيا في المكانة الاستراتيجية عند أمريكا والغرب عموما، تشعر أيضا أن علاقاتها بتركيا أعمق وأشد تداخلا من أن يؤثر فيها أوضاع وسياسات عربية أو أمريكية.
لا أظن أن قيادة عسكرية مصرية، أو سورية إن وجدت، أو عراقية ستقبل بالعودة إلى»تتريك« الأمن القومي العربي . ولا أظن أن العقل العسكري التركي سيتقبل المشاركة مع عسكريين من مصر أو سوريا أو العراق أو السودان في قيادة جيش إقليمي يواجه به إيران، أتوقع معارضات شاقة لجهود تمرير المشروع» العربي «للأمن القومي، ومعارضات أشد لجهود تمرير المشروع» التركي «للأمن الإقليمي، ونشاط غربي مكثف للتوفيق بين المشروعين.
رابعا: السطور السابقة تنتهى إلى نتيجة محددة بين نتائج أخرى، نتيجة تهمني بشكل خاص لأنها تتعلق بلحظات زوال النظام الإقليمي العربي وقيام غيره . انتهت السطور إلى أن النظام العربي محشور حشرا في طريق الزوال، وأن نظاما إقليميا جديدا ربما اقتربت نوايا إقامته من دخول مرحلة التأسيس. نعرف أن مراحل الانتقال في النظام الدولي والإقليمي تكون عادة شاقة، بل ودموية، بمعنى أنها مراحل حرب واقتتال وإبادة ومحارق وكوارث. نعرف أيضا أنها المراحل التي يجرى خلالها وضع قواعد جديدة للعمل ولممارسات تتناسب وحداثة النظام الناشئ وظروف العصر وطبيعة العلاقات الدولية والتقدم التكنولوجي والتطور الذى لحق بالقانون الدولي ومؤسسات المجتمع المدني الدولية أو الإقليمية. في الوقت نفسه، تجتهد دول الإقليم، نخب حاكمة ومراكز عصف فكرى ومؤسسات عسكرية ومدنية وقيادات فكرية، لابتكار نظام توازن إقليمي، إذ أنه بدون توازن قوى إقليمي لن يمكن منع انفراد دولة بقيادة النظام، وسيكون صعبا فرض العقاب على دولة إقليمية خرقت القواعد التي وضعت لضمان استقرار هياكل النظام الإقليمي الجديد، وحسن أداء مؤسساته.
العنف الدموي في النظام العربي حاصل والكوارث واقعة ونحن شهود عليها والقواعد توقف العمل بها ولم تنشأ بعد قواعد جديدة. كما أنه لم يقع بعد جهد منظم لإقامة توازن للقوى، وإن كان هناك مؤشرات على أن جهودا تبذل على المستوى الدولي والإقليمي لابتكار نظام توازن يراعى ظروف إيران الجديدة وامكانات تركيا الاقتصادية وعضويتها في الأطلسي ويراعي قدرات العرب المالية وقوى الثورة العربية المتوقفة مؤقتا. إن نجاح هذه الجهود بانضباطها في إطار منتظم وتوقيتات مناسبة، سيكون مؤشرا على أن نظاما إقليميا جديدا يوشك أن يولد، وأن نظاما إقليميا عربيا يوشك أن يختفى.
* * *
لمصر دور في الروايتين، رواية نسجت مصر بنفسها فصولها وتحتفظ لنفسها فيها بدور البطولة، وتحكى فيها حكايتها مع الإرهاب . ورواية نسج فصولها آخرون. تحكى حكاية قديمة قدم تاريخ المنطقة ورغم قدمها لم يكن لمصر سوى علاقة هامشية بأبطالها التاريخيين . هؤلاء الأبطال الجدد في الساحة العربية ربما خصصوا ، أو سوف يخصصون، لمصر دورا ثانويا أو جانبيا في روايتهم . أعود فأقول لصانعي السياسة الخارجية المصرية : أخرجوا بسرعة من عباءة نظام مبارك ومن سبقه، واشرعوا فورا في إعادة تقييم ثورة الربيع، ففيها دروس ثمينة للخروج من أزمات الدور والهوية والقدرة.