حسن أحمديان يكتب لـCNN: عقدة إيران في السياسة الإقليمية للسعودية
هذا المقال بقلم حسن أحمديان، باحث وأکاديمي إيراني، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية.
بعد ضرب الربيع العربي لبعض حلفاء المملکة السعودية وعبور دول مجلس التعاون الموجة الأولی من الإنتفاضات العربية بسلام، بدأت الرياض تحرکاتها الإقليمية لمرحلة ما بعد الثورات بحلة لم يعهدها المتابع للسياسات السعودية في الکثير من جوانبها. وکان محور هذه التحرکات، الحد من تدهور ميزان القوی الإقليمي لصالح اللاعبين الإقليميين الجدد کالإخوان المسلمين والمنافسين القدامی کإيران. وکانت أدوات اللعب السعودي أمام إيران جديدة للغاية. فلأول مرة استعانت السعودية بخطابٍ طائفي لمحاصرة إيران وضرب حلفاءها. وأصبح التأکيد علی طائفية سياسات إيران الإقليمية أداة لتخوين حلفاءها العرب. کما جری الترکيز علی علاقات إيران بشيعة المنطقة وتقلّص الحديث عن دعم إيران لحماس ودأبها لبناء علاقات متينة مع الإخوان المسلمين ودعمها لأکراد العراق أمام تقدم داعش لتناقضها مع الخطاب المؤکِّد علی طائفية سياسات إيران. وبذلك غلفّت السعودية أهدافها الإستراتيجية بخطابٍ بدأ يأتي بتغييرات إستراتيجية بعيدة المدی.
وقد ساعد اختلاف رؤی الإخوان وإيران حول سوريا إلی ولوج شيء من الخطاب الطائفي في إعلام الإخوان السياسي ما أدی لتباعد إيراني – إخواني. وکان ذلك يصب في مصلحة السعودية الباحثة عن تعميق الهوة بين إيران والإخوان. ولکن الخطاب الطائفي أتی بنتائج جانبية بدأت تطفوا علی سطح التطورات الإقليمية. ويمکن اعتبار استفادة الحرکات المتطرفة المنخرطة في الحرب الداخلية السورية من موجة المتطوعين للقتال والمثارة بالخطاب الطائفي أول النتائج الجانبية. وتصاعدت أعداد المتطوعين للقتال في صفوف التنظيمات المتطرفة لأرقام غيرمسبوقة لم تتراجع عن الألف حتی بعد بدء عمليات التحالف الدولي. کما ازداد قبول المجتمعات المسلمة لخطاب هذه التنظيمات المتطرفة وتزايدت علی إثره المساعدات المالية واللوجستية المقدمة لها.
***
أدی صعود داعش واجتياحه لأراضي العراق إلی تذبذب في سياسة الرياض الإقليمية. فقد أتت "طيفنة" الصراع علی السعودية بتهديدات جمة. ومع اقتراب أشهر الملك عبدالله الأخيرة ازداد الغموض في الرياض. فلم يؤد ظهور داعش إلی انحسار الخطاب الطائفي للسعودية علی الرغم من إضعافه لمحور سعود الفيصل – بندر بن سلطان بعد إبعاد الأخير عن ملف سوريا. کما تضاءل تأکيد الرياض علی طائفية حکومة بغداد بعد اختيار حيدر العبادي لرئاسة الوزراء. ودخلت الرياض طرفاً في التحالف الدولي ضد داعش. بالرغم من هذه التطورات، يصعب القول بتغيير الإستراتيجية الإقليمية للسعودية کما يصعب الإتيان بنقطة فاصلة لمثل هذا التغيير. فقد استمر التجييش الإعلامي ضد إيران وحلفاءها في سوريا ولبنان واليمن. لهذا يمکن القول بازدياد الغموض في الأشهر الأخيرة لحکم الملک عبدالله کسمة رئيسة لسياسة المملکة الإقليمية.
وکان الغموض هذا يزعج الکثيرين في الداخل السعودي. فقد کان ولي العهد وحاشيته، المتخصصين في الشؤون الأمنية والعسکرية، يبحثون عن فرصٍ لإعادة رسم وتأطير السياسة الإقليمية للسعودية وفقاً لأولويات مختلفة والتخلص من الأعباء التي حدّت من إمکانيات التحرك السعودي. وبمجيء الملك سلمان والتغييرات السريعة في الداخل السعودي، بدأ إعادة ترتيب أولويات السياسة الإقليمية للمملکة يدخل حيّز التنفيذ. وقد أظهرت سرعة التغييرات الداخلية (بإصدار الملك سلمان 34 مرسوماً ملکياً في الأسبوع الأول من حکمه) أن التغيير سيطال السياسة الخارجية. ولارتباط السياسة الداخلية بالخارجية، فقد رشحت أولی التغييرات للسياسة الخارجية في الداخلِ عبر إعادة شيء من الحرية للوجوه المعروفة بقربها من الإخوان کسعود الشريم وسلمان العودة.
ويُعد إتاحة الفرصة لزيارة راشد الغنوشي السعودية ودعوة خالد مشعل لزيارة المملکة، أول الغيث الذي بدأ هطوله بزيارة أردوغان للرياض. فقد کانت رياض الملك عبدالله وضعت إلی جانب إيران وحلفاءها، حرکة الإخوان وأخواتها کأحد أهم التهديدات الأمنية للسعودية وحلفاءها. وکان لهذا التوجه ما يبرره. فقد سعت حرکة الإخوان إلی بناء تحالف إقليمي لا يندرج ضمن التحالفات السابقة ويُضعف بالضرورة محور الإعتدال العربي. وکان قد أخرج مصر وتونس والمغرب من المحور المذکور وکان متوقعاً أن يُخرج الأردن وغيرها منه. رغم ذلك، ظل الالتباس سائداً. فلم يکن بمقدور المتتبع للسياسة الخارجية السعودية أن يحدد بدقة أيٍ من إيران أو الإخوان کتهديد أولي في الذهنية الإستراتيجية السعودية.
بصعود الملك سلمان بدأ التقارب السعودي إلی الإخوان وبدا واضحاً أن الغموض في تحديد الأولويات قد انتهی إلی حين. إذ أصبحت إيران تمثل الخطر الأول في المخيلة السعودية وبذلك تجب مواجهتها بکافة الوسائل حتی لو اقتضی ذلك التقارب من تهديد داخلی وإقليمي کالإخوان في المدی القصير. لا تنبع إعادة رسم الأولويات السعودية من المتغيرات الإقليمية فقط إذ للإنعطافة الغربية تجاه إيران وخطابها الجديد الذي طرحه روحاني أثراً واضحاً في التطور الحادث في الرياض. من هذا المنظور يمکن القول بأن المتغير الإيراني يلعب دوراً محورياً في تحول السياسة الخارجية السعودية علی المستويين الإقليمي والدولي.
***
ويشير التقارب السعودي من ترکيا إلی إرجاء الخطر الإخواني للتعاطي مع التهديد الذي تراه السعودية في إيران. أما مصر السيسي فلا تجد بداً من الصمت أو التذمر خلف الستار من التوجه الجديد للرياض. فأولويات مصر اليوم لا تتماشی مع أولويات السعودية. فالإخوان من وجهة نظر السيسي هم التهديد الأهم وإيران وحلفاءها لا يأتون إلا بعد الخطر الإخواني. إلا أن مصر السيسي لا تملك أدوات الضغط علی السعودية. فقد تماشت السعودية مع خيارات السيسي الداخلية والإقليمية لسنة ونصف. وأصبح اليوم علی مصر السيسي أن تماشي أولويات الرياض الإقليمية في الداخل المصري وخارجها. ويبقی الميل تجاه طهران خياراً مصرياً يؤرق حکام الرياض ويدفعهم لطمئنة القاهرة باستمرار الدعم الإقتصادي والذي ظهر جليّاً في مؤتمر دعم وتنمية الإقتصاد المصري. إذ رغم انحدار مستوی تمثيل السعودية، صاحبة فکرة المؤتمر، أبدت الإلتزامات التي قطعتها السعودية لدعم مصر خوفا من أي تحرك مصري للتقارب مع طهران.
أما ترکيا فقد خسرت في السنوات الأخيرة الکثير من نفوذها الشرق أوسطي. فقد وضعت ترکيا کل بيضها الشرق أوسطي في سلة الرهان علی سقوط الأسد. کما وقفت إزاء إسقاط الرئيس مرسي موقفاً أفقدها الکثير في التعامل مع الدول العربية المجابهة لإيران وحلفاءها. فلا هي استفادت من موقفها القريب من السعودية تجاه الأزمة السورية ولا استطاعت العبور من سقوط الرئيس مرسي للتعاطي مع السعودية في ملفات کاليمن وقطاع غزة. من هذا المنظور يُعتبر الإنفتاح السعودي عليها فرصة ستحاول أنقرة استثمارها في سوريا. ويمکن توقع تغاضي ترکيا عن مواجهة نظام الرئيس السيسي لأهداف قد تعتبرها قريبة المنال. ولکن ترکيا المهزومة في کافة الملفات الإقليمية تقريباَ تدرك جيداً أن الوضع في العراق وسوريا قد يتطور ليوجه أخطاراً لوحدتها الأرضية. من هذا المنظور لا يُمکن لترکيا الولوج عميقاً في مواجهات الرياض الإقليمية. فقد بات منظّر "تصفير المشاکل" مع الجوار رئيساً لوزراء أنقرة وقد جرَّبَ تأطير المشاکل بدل تصفيرها في السنوات الأخيرة وشهد ما خسرته ترکيا نتيجة لهذه السياسة. لذلك من المستبعد أن تناصر ترکيا السعودية إلا في سوريا.
***
ومن الواضح أن تمحور السياسة السعودية حول إيران سيقود عقلية رياض الشرق أوسطية إلی حين. وما حرب "عاصفة الحزم" علی اليمن إلا البداية. وتبحث حکومة إيران الواقعة في محور السياسة السعودية عن طرقٍ لتبديد المخاوف السعودية والعربية حول اتفاقها المحتمل مع مجموعة 1+5 وقد أکدت في هذا السياق علی لسان قيادتها أنها لا تريد ربط أي اتفاق مع الدول الغربية بالملفات الإقليمية. إلا أن هذه الأطروحات لا تطمئن السعوديين. فالرياض التي اختارت محاصرة إيران وحلفاءها بخطابٍ طائفي تجدُ اليوم في إشراك الإخوان في معسکرها الإقليمي ضالتها لتقزيم دور إيران الإقليمي. محور المشکلة في تحالفات السعودية الجديدة يکمن في نظرة الطرفين (الإخوان والسعودية) لبعضهم من منظور مقولة "الغاية تبرر الوسيلة". ومن شأن أي تغيير جدي في الأزمة السورية أو في علاقة إيران بالدول الغربية أن يعمق الفجوة السياسية بين الطرفين ويُقحمهما مجدداً في صراعٍ أيديولوژی.
ومن الواضح أيضاً أن المعسکر السعودي أمام إيران لا يُمکن أن يتزعمه غير الرياض. فلا يمکن للسعودية التي تواجه قوة إيران الإقليمية القبول بقوة إقليمية أخری تشاطرها النفوذ بين الدول العربية. فلا يُمکن للسعودية کبح جماح التطلعات الترکية للعب دورٍ إقليمي أکبر أو إبعاد القاهرة المتعطشة للعب دور إقليمي في المديين المتوسط والبعيد. کما أن أولويات دول عربية کقطر والإمارات مبنية علی مشاريع إقليمية تتلاقی حيناً مع سياسات الرياض وتتقاطع معها أحيان أخری. تعلم السعودية أن الحائط الذي تحاول بناءه حول إيران في الشرق الأوسط ليس إلا شبك ممزق لا يصلح لما ترنوا له. من هذا المنظور تبدو مهمة الملك سلمان أمام إيران شبه مستحيلة. ولکن الواضح أن أجواء الرياض المشحونة بالعداء لطهران والخوف منها تحجب عن إستراتيجيي السعودية النتائج المحتملة للتشبث بالخطاب الهوياتي. وتُبدي تجربة الخيارات الإستراتيجية السعودية في أفغانستان فالعراق فسوريا والتهديدات النتاتجة عنها کالقاعدة فالدولة الإسلامية في العراق فداعش وجبهة النصرة وأخواتها قصر نظر استراتيجي. هکذا يقلب الخيار الإستراتيجي الخاطئ الأهداف المرسومة لسياسة ما إلی نتائج عکسية.