فهمي هويدي يكتب لـCNN عن إشكالية الأيدي الملوثة بدماء المصريين
هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية.
التحدي أكبر مما نظن. فلئن كانت الحقيقة شرطا للمصالحة إلا أن الديمقراطية تمثل الضمان الوحيد لإدراك الحقيقة، وتلك مشكلة أخرى.
(١)
قال المهندس إبراهيم محلب فى لقائه مع الجالية المصرية بعمان ردا
على سؤال وجه إليه عن الأوضاع الداخلية فى مصر انه لا مصالحة مع من
تلوثت أيديهم بالدماء. فى نفس اليوم (الخميس ٢٨/٥) أصدرت إحدى محاكم
الاسكندرية حكما بتبرئة ضابط «المباحث» الذى سبق أن حكم عليه بالسجن
١٥ عاما بعد إدانته فى تعذيب وقتل سيد بلال المتهم بالضلوع فى تفجير
كنيسة القديسين عام ٢٠١١، حدث ذلك فى حين لم يتوقف اللغط حول مسئولية
الأمن عن قتل طالب هندسة عين شمس إسلام عطيتو. وبسبب حظر النشر ظل
الغموض محيطا بمصير ضابط الشرطة الذى اتهم بقتل المحامية شيماء
الصباغ. وهو ذات الغموض الذى أحاط بمصير التحقيق فى قتل اثنين من
المحامين بعد تعذيبهما فى قسم المطرية بالقاهرة، هما كريم حمدى وإمام
عفيفى.
هذه الوقائع التى حدثت فى الآونة الأخيرة لا تجيب على السؤال من الذين
تلوثت أيديهم بدماء المصريين. لكنها على الأقل تبين أمرين أساسيين
هما: ان السؤال ليست له إجابة واحدة كما تروج وسائل الإعلام، وان
التعرف على الحقيقة فى هذا الموضوع بالذات أمر بالغ الصعوبة فى ظل
الأوضاع الراهنة، التى تتحكم فيها السلطة فى كل مفاصل وخيوط
الموضوع.
من ناحية أخرى فإن السؤال يقلب علينا كما هائلا من المواجع التى
تعاقبت علينا فى مصر منذ قامت ثورة ٢٠١١، ذلك ان كم الدماء التى سالت
منذ ذلك التاريخ أكبر مما يتصور كثيرون، ومازلنا حتى الآن ــ بعد ٤
سنوات ــ لا نعرف حقيقة الذين تلوثت أيديهم بدماء المصريين. ورغم ان
المنظمات الحقوقية المستقلة لديها اجتهاداتها فى الإجابة على
التساؤلات المتعلقة بذلك الملف، إلا أن الخطاب السياسى والإعلامى إما
ساكت على بعضها أو أنه يوظف الإجابات المتعلقة بالبعض الآخر فى اتجاه
واحد أريد به خدمة الصراع السياسى القائم فى مصر. وفى الحالتين فإن
الحقيقة هى الضحية، حيث يجرى التعتيم على جانب منها، فى حين يتم
التلاعب بالبعض الآخر واستغلاله لتصفية الحسابات السياسية.
(٢)
ذكرت فى مقال الأسبوع الماضى (الثلاثاء ٢٦/٥) ان لدينا تاريخين
لأحداث السنوات الأربع الماضية. واحد أهلى مستقل اجتهد فى تحرى
الحقيقة، والثانى أمنى أعاد صياغة الأحداث فى ضوء متطلبات الصراع
الحاصل وحسابات ومصالح المؤسسة الأمنية. وفى حين تبنى الخطاب السياسى
الصياغة الجديدة للأحداث، لأسباب مفهومة، فإن وسائل الإعلام وأجهزة
التوجيه المعنوى تولت تسويقها من خلال كل المنابر المتاحة المرئية
والمقروءة والمسموعة. وهى فى ذلك أدت بهمة مشهودة ذات الدور الذى نهضت
به «وزارة الحقيقة» فى رواية جورج أورويل الشهيرة (١٩٨٤). إذ أعيد
تشكيل المعلومات واللعب فى المعانى والمفردات، للتحكم فى الوعى
والإدراك بحيث يتطابق مع الهوى السياسى ويحقق ذوبان المجتمع فى السلطة
وخضوعه التام لإرادتها.
ثمة بيان متاح على الإنترنت يتحدث عن دماء المصريين التى سالت منذ
ثورة ٢٠١١، تحت اسم «خريطة ويكى ثورة». وهو مركز حقوقى مستقل يتمتع
بصدقية عالية، ومعلوماته لا يختلف عليها فى الجوهر المراكز الحقوقية
المماثلة، رغم ان الأمر لا يخلو من قدر من التباين فى التفاصيل.
الخريطة التى أوردها خبراء المركز ونشطاؤه خلصت إلى النتائج التالية
فى تقدير وحصر الضحايا الذين سقطوا من ثورة يناير:
< فى فترة الـ١٨ يوما الأولى من الثورة التى امتدت من ٢٥ يناير
حتى ١١ فبراير ٢٠١١ تم حصر ١٠٧٥ قتيلا.
< فى ظل إدارة المجلس العسكرى، من ١١ فبراير ٢٠١١ إلى أول يوليو
٢٠١٢، وصل عدد القتلى إلى ٤٣٨ قتيلا وتم حصر ١٦.٨٠٦ مصاب.
< فى عهد الدكتور محمد مرسى الممتد من أول يوليو ٢٠١٢ حتى ٣ يوليو
٢٠١٣، سقط ٤٧٠ قتيلا، فى حين تم حصر ٩٢٢٨ مصابا ــ وألقى القبض على
٤٨٠٩ أشخاص.
< منذ ٣ يوليو ٢٠١٣ وحتى ٣١ يناير ٢٠١٤ وصل عدد القتلى إلى ٣٢٤٨
شخصا. كما تم حصر ١٨.٥٣٥ مصاب حتى ٢٨ فبراير ٢٠١٤ ووصل عدد المقبوض
عليهم والملاحقين قضائيا حتى ١٥ مايو ٢٠١٤ إلى ٤١.١٦٣ شخص.
لا استطيع أن أدعى أن هذه هى الحقيقة، وقد ذكرت انها ضمن الاجتهادات
التى سعت إلى تقديم الحقيقة. وأشرت إلى أن المصادر الحقوقية المستقلة
ليست لديها اختلافات جوهرية مع النتائج التى توصل إليها خبراء «ويكى
ثورة». ولأن التحفظات كثيرة على بيانات وأرقام الأجهزة الأمنية التى
تولت إعادة صياغة أحداث ومعلومات تلك المراحل خدمة للنظام وتبرئة
لساحتها، فإن الباحث عن الحقيقة يظل فى حيرة من أمره. على الأقل فربما
يصبح على يقين من ان دماء غزيرة قد سالت، لكنه يغدو متشككا فى هوية
وطبيعة الأيدى التى تلوثت بدماء المصريين.
(٣)
سواء عبرت تلك المعلومات عن الحقيقة أو كانت قريبة منها، فإننا
نصبح إزاء ملف متفجر يمكن ان يشكل نقطة تحول فى مسار الاستقرار
السياسى والاجتماعى بمصر. وتجاهله أو التهوين من شأنه ان يشكل خطرا لو
تعلمون عظيم. وقبل الانتقال إلى نقطة أخرى فى السياق أذكر بأن ذلك
العدد الكبير من الضحايا يشمل الجنود والضباط إلى جانب الشريحة
الواسعة من المدنيين. أذكر أيضا أن هوية الضحايا وانتماءاتهم ليست محل
اعتبار فى الرصد، الذى عنى بتتبع الانتهاكات التى تعرض لها الإنسان
المصرى بغض النظر عن أى انتماء له.
ان المرء لا يستطيع أن يخفى شعوره بالقلق حتى يقف على تلك المعلومات
وتلج عليه الأسئلة التالية: ما الذى يمكن ان يفرزه أو يستنبته إغراق
الفضاء المصرى بذلك الكم من الدماء والتشوهات؟ وما الذى يمكن ان تحدثه
المرارات والثأرات فى محيط أهالى الضحايا وذويهم؟ وما هى الرسالة التى
تبعث بها إلى الرأى العام فيما خص قيم التسامح والحلول السلمية
واحترام الدستور والقانون؟
للأسف فإن مثل هذه الأسئلة لم تعد مطروحة فى مصر على الساحتين
الثقافية فضلا عن السياسية. ذلك ان الخطاب التعبوى المهيمن مشغول طول
الوقت بتصفية حسابات وصراعات الحاضر، دونما نظر إلى تداعيات المستقبل.
وإزاء ذلك لا يسعنى إلا أن أذكر بأن مثل تلك الأجواء كانت بين أهم
منابع العنف والإرهاب. فقد خرجت حركة التكفير التى قادها شكرى مصطفى
فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى من زنازين السجون المصرية، كما أن
حركة داعش كانت مولودا طبيعيا لوحشية وعنف النظام البعثى فى العراق،
وقد تشكلت عمليا فى سجن «بوكا» الذى أقامه الأمريكيون فى جنوب العراق
بعد احتلاله عام ٢٠٠٣ لقهر وإذلال عناصر المقاومة.
لا أبالغ إذا قلت إن الانتهاكات التى تعاقبت خلال السنوات الأربع
الماضية أحدثت جرحا عميقا فى المجتمع المصرى، تراكمت فيه المرارات
والأحقاد، التى لا ينبغى أن نستغرب تحولها إلى مخزون كبير للعنف الذى
لا يعرف له شكل أو مدى. ولا سبيل لتجنب ذلك السيناريو الكئيب والمخيف
إلا بمحاولة تطهير الجرح وتصفية مخزونه من المرارات والأحقاد
والثأرات. ويعد إعلان الحقيقة مفتاحا أساسيا لإنجاح تلك المحاولة
للتطهير المنشود.
(٤)
لا ننفرد بذلك التحدى. إذ سبقنا آخرون فى محاولة انجاز التطهير
المنشود. فقد قامت بالمهمة محاكم حقوق الإنسان التى تشكلت فى اليونان
فى سبعينيات القرن الماضى. وتصدت لها لجان تقصى الحقائق فى جنوب
أمريكا اللاتينية (فى الأرجنتين عام ١٩٨٣ وشيلى عام ١٩٩٠) وفعلتها
لجنة الحقيقة والانصاف التى تشكلت فى جنوب أفريقيا عام ١٩٩٥. ويعد
تشكيل هيئة الانصاف والمصالحة بالمغرب عام ٢٠٠٤ النموذج الأحدث فى ذلك
المسار.
التجربة المغربية تقدم نموذجا ليس فقط للسعى إلى محاولة إعلان الحقيقة
فى الانتهاكات التى وقعت. ومن ثم انجاز المصالحة الوطنية المنشودة،
ولكنها أيضا تكشف عن عمق العقبات التى قد تحول دون ذلك. وقد استفدت فى
دراسة هذه التجربة من بحث أعده حول الموضوع الدكتور بلال العشرى أستاذ
التعليم العالى فى جامعة محمد الخامس بالرباط، أثار فيه نقاطا عدة فى
المقدمة منها ما يلى:
< إن الملك الحسن الثانى فى آخر سنوات حكمه أدرك أن المغرب بصدد
مواجهة أزمة كبرى على الصعيدين الاقتصادى والسياسى. فاعترف بأن اقتصاد
البلاد يوشك على الإصابة بـ«السكتة القلبية» على حد تعبيره. وفى الوقت
ذاته فإن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التى كشفت عنها تقارير
منظمة العفو الدولية كانت قد انفضح أمرها حتى شوهت صورة المغرب فى
العالم الخارجى.
< لمواجهة الأزمة سعى الملك الراحل إلى محاولة إحداث انفراج نسبى
يحسن صورة نظامه، فأصدر قرارا بأحداث المجلس الاستشارى لحقوق الإنسان
فى عام ١٩٩٠. وأطلق سراح مئات المعتقلين الذين كانوا فى عداد المختفين
فى العام الذى يليه، وأنشأ وزارة لحقوق الإنسان سنة ١٩٩٣ ثم أصدر فى
العام التالى عفوا عاما عن المعتقلين السياسيين. كما اعترف فى حديث
صحفى بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان غلبت مصلحة أمن الدولة والنظام على
أمن المواطنين والنشطاء السياسيين. واستكمل الملك المراحل خطواته تلك
بتعيين السيد عبدالرحمان اليوسفى المعارض اليسارى الشهير رئيسا
للوزراء عام ١٩٩٨.
< بعد وفاة الملك الحسن عام ١٩٩٩ وتولى ابنه الملك محمد السادس جرى
الترويج لمفهوم جديد للسلطة وتمت إقالة وزير الداخلية الذى حمل
بمسئولية الانتهاكات، وشكلت لجنة للنظر فى تعويض ضحايا انتهاكات حقوق
الإنسان التى ظلت تعمل منذ عام ١٩٩٩ إلى عام ٢٠٠٣.
< هذا الجهد قوبل برفض من جانب المنظمات الحقوقية التى انتقدت
الاكتفاء بمجرد تعويض الضحايا، وتجاهل كشف الحقيقة ومحاسبة المسئولين
عن الانتهاكات والاعتذار عن وقوعها، مع إجراء إصلاحات قانونية وسياسية
للحيلولة دون الرجوع إلى الماضى. وفى مواجهة هذه الضغوط جرى توسيع
اختصاصات مجلس حقوق الإنسان لضمان استقلاله. وبناء على توصيته تم
انشاء هيئة الانصاف والمصالحة للبحث فى الانتهاكات الجسيمة التى وقعت
إبان حكم الملك الراحل (بين عامى ١٩٥٦ و١٩٩٩).
< باشرت الهيئة مهمتها طوال سنة، لكنها حصرت مهمتها فى تعويض بعض
الضحايا، وعقدت جلسات استماع لعدد منهم، ولم تتطرق إلى كشف الحقائق
ولا إلى محاسبة المسئولين ناهيك عن عدم اعتذارها عن ممارساتهم. حدث
ذلك فى حين ظل الجهاز الأمنى على حاله لم يتغير فيه شىء، ولم تتخذ أى
إصلاحات أو خطوات هيكلية تضمن عدم تكرار الانتهاكات مرة أخرى.
ما كشفت عنه الدراسة ان إعلان الحقيقة ليس أمرا هينا، لأنه يتطلب بيئة ديمقراطية ومناخا للحرية يوفر شجاعة الاعتراف بالحقائق ومحاسبة المسئولين عن الانتهاكات. وما لم يحدث ذلك فإن تطهير الجرح من عفونته ومراراته لن يتم، وستصبح المصالحة أملا بعيد المنال. الأمر الذى يوجه رسالة إلى الجميع خلاصتها ان الحرية والديمقراطية شرط لإعلان الحقيقة وأن الحقيقة شرط لإنجاز المصالحة. وما لم يتحقق ذلك فإن دماء الضحايا ستظل موزعة على كل القبائل السياسية والأمنية الفاعلة فى الساحة.