رأي.. "العلاقة بين قناة السويس والهوية المصرية"
هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
كانت مقدمة مقالي السابق" هل أطاح الربيع بالهويات العربية التقليدية؟" عن أهمية قناة السويس وسألتني إحدى القارئات النابهات عن العلاقة بين مشروع قناة السويس والهوية المصرية، وكنت قد وعدتك-عزيزي القارئ- ان أتحدث اليوم عن "الهوية المصرية وتحدي المستقبل" إلا إنني فكرت أن اشاركك اجابتي للقارئة النابهة بالتأكيد على أن قناة السويس تمثل ركناً هاماً من أركان الهوية المصرية لعدة أسباب أهمها أن موقع مصر الاستراتيجي بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر ميزها بهوية خاصة.
ولقد فكر الفراعنة اكثر من مرة في حفر قناة تربط البحرين معاً وذلك لتسهيل التجارة العالمية بين الشرق والغرب إلا ان المشروع لم يدخل حيز التنفيذ، وفي العصر الحديث كان اول من اقترح هذا الامر هو نابليون بونابرت الذي دخل مصر غازياً عام 1798 م والذي كان منبهراً بأمرين لا ثالث لهما: الاثار المصرية وخاصة الاهرامات وأبو الهول، والموقع الجغرافي المميز لمصر، وقد اقترح أن تحفر قناة تصل بين البحرين الأبيض والأحمر، وبالطبع لا يفكر أحد بهذه الطريقة الاستراتيجية إلا سياسي عبقري متحضر على شاكلة نابوليون.
فقد توالت على مصر عبر العصور جحافل الغزاة من يونان وفرس ورومان وبيزنطيين ثم دخلتها المسيحية في القرن الأول وتلاها الإسلام في القرن السابع ولم يفكر حكامها المرسلين لحكم مصر سواء من بيزنطة أو الخلفاء الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين فضلاً عن المماليك في مثل هذا الأمر لسببين الأول لأنهم غرباء والآخر لأنهم لا يملكون مثل هذه الرؤيا الاستراتيجية لهوية المكان.
فجغرافية المكان تتحدث عن ذاتها فالمكان له عبقريته كما تعلمنا من جمال حمدان وعبقرية المكان وهويته لا يكشفها إلا قائد ذكي يتمتع بتفكير مستقبلي ولا شك أن نابليون كان من هذه النوعية لكنه رحل عن مصر ومن بعده حملته عام 1801م وقد اقتنع بالفكرة محمد علي الذي حكم مصر عام 1805 م بعد رحيل الحملة الفرنسية إلا أن تفكيره الاستراتيجي جعله يرى أن مصر في حالة ضعف وحفر قناة مثل هذه سوف يجعلها مطمعاً للغزاة خاصة أن الاقتراح جاء من أحد هؤلاء.
لقد افتقدنا كثيراً تلك النوعية من القيادات التي تربط بين التاريخ والجغرافيا والبشر فتكتشف هوية المكان والزمان والإنسان، لقد كان قرار حفر القناة من نابوليون استراتيجياً وكان رفض الحفر من محمد علي استراتيجياً بالمقابل وكل له مبرراته. ولعلنا نلاحظ ان الاثنين لم يكونا مصريين فالأول فرنسي والثاني ألباني ولذلك استمر الفرنسيون في إصرارهم على تنفيذ المشروع حتى نجح ديلسبس في اقناع محمد سعيد بن محمد علي بتنفيذه. وقد تم حفر القناة بعد موت محمد سعيد في عهد الخديوي إسماعيل وهكذا اكتملت علاقة قناة السويس بالهوية المصرية عندما قام الانسان المصري بحفر القناة ودفع حياته ثمناً لذلك.
لقد قضى مليون مصري من أصل خمسة ملايين مجمل سكان مصر آنذاك وقد تحدث مؤرخون وصيغت روايات تحولت الى أفلام سينمائية ومسلسلات تليفزيونية ومسرحيات عن التسخير والجوع والامراض التي ألمت بالمصريين أثناء حفرهم لقناتهم بالعرق والدمع والدم.
لقد اختلط قاع القناة وضفتيها ومياهها بدماء نقية طاهرة ونفوس طيبة مسالمة مستسلمة لحكام مستبدين وارواح ارتفعت لبارئها تشكو الظلم والضيم وقلة الحيلة، فصارت القناة بعد حفرها بهم رمزاً لمصر ولم يعد لمصر تعريفاً بدونها والاهرام.
بالطبع تحققت كل تخوفات محمد علي فقد سيطر الانجليز المحتلين لمصر عام 1882على مقدرات القناة وإدارتها. ومع الوقت أصبحت القناة رمزاً للاحتلال الإنجليزي وضعف المصريين المحتلين. حتى قامت ثورة 23يوليو1952 وأراد عبد الناصر بفكره الاستراتيجي أن يبني سداً عالياً في أقصى الجنوب لكي يضاعف الرقعة الزراعية من خلال الري الدائم على طول العام بديلاً لري الحياض بالفيضان مرة واحدة سنوياً هذا فضلاً عن إمداد الوادي بالكهرباء التي تولدها توربينات السد العالي، وهنا للمرة الثانية نقف امام عبقرية الزمان (التاريخ) والمكان(جنوب الوادي) والانسان عبد الناصر المعبر بحق عن كل المصريين حينئذ لكن البنك الدولي أراد أن يوقف المشروع برفضه تمويله حتى تستمر مصر ضعيفة.
لقد ذكرهم ناصر بمحمد علي وكان لابد من القضاء عليه ولكن عبد الناصر لم يستسلم وقام بتأميم قناة السويس وإدارتها مصريا ونجح في ذلك وكان التحدي رهيباً فإذ بعدوان ثلاثي بريطاني فرنسي إسرائيلي هدفه سقوط عبد الناصر، لكن تدخل القوتين العظميين حينئذ أمريكا وروسيا مع صمود ناصر وقدرته السياسية على المناورة بفكر استراتيجي ومن خلفه الشعب المصري أوقف العدوان وهكذا استمرت القناة تعبر عن هوية مصر.
في عام 1967تم اصطياد عبد الناصر وقد كان مهيئاً لذلك تماماً لأسباب عدة منها الهزيمة في مستنقع اليمن وعودة الجيش منكسراً فضلاً عن الإدارة السيئة للجيش المصري وتحدي التوجه العالمي لتحجيم مصر. لكن لم يكن ساكن القصر يعلم أن هناك مياهاً كثيرة مرت في نهر السياسة العالمية منذ انتصاره السياسي في 1956 فسقط وأغلقت قناة السويس وضاعت سيناء ووقعت في يد من لا يرحم. وخرج الشعب لإعادة ناصر الرمز الذي أعاد الأمور الى نصابها لكن القدر لم يمهله لاستكمال الطريق وجاء السادات وأعاد الكرامة لمصر بانتصاره في 1973 وإعاد فتح قناة السويس للملاحة رمز الانتصار وعودة الهوية، فالمكان(الجغرافيا قناة السويس وسيناء)،التاريخ(حرب 1973)، الانسان المصري الذي صنع ملحمة انتصار غير مسبوقة. ولن نتحدث عن الفشل الذريع للسادات في إدارته الداخلية لمصر وتشجيعه للتيارات المتطرفة فأخذت مكاناً غير مسبوق بمساومات انتهت باغتياله.
وجاء مبارك ليستكمل الفشل الداخلي بمسيرة تفكك المجتمع وتشريع الفساد والمساومات مع الإخوان وباقي الأحزاب مع قبضة أمنية بلا ضمير واستكمال مسيرة السداح مداح.
إن مافعله السيسي ليس حفراً لقناة السويس كما المرة الأولى ولم يقم بتأميمها لأنها مصرية وإن كنت اعتقد أنه أممها ثانية بقراره أن يودع دخل القناة في البنك المركزي بعد ما كان ضمن مخصصات رئاسة الجمهورية.
ومع انفجار الشعب في 25 يناير وتنحي مبارك وتخبط القيادة في إدارة البلاد وضياع مبادئ الثورة وفشل الاخوان في توحيد القوى وتحقيق مبادئ الثورة وقيام ثورة 30يونيو كانت مصر قد اصطدمت بقاع البئر وتحتاج لقفزة تصل بها الى حافته، لترى النور وتبدأ مسيرة جديدة يحدوها الامل ان تحقق في المستقبل ما ضاع منها وهو كثير فكان مشروع القناة يرفع راية الهوية المصرية يذكر ان لنا تاريخ تليد ولنا إرادة حاضرة والمستقبل ينتظرنا وكان حفل الافتتاح يقول "نحن المصريين قادرون على الخروج من قاع البئر" اذن لم تكن القضية حجم القناة ولا حرباً ضد أحد لكن كانت هل نحن قادرون على امتلاكها كرمز لمصر الحره وصنع مصيرنا وبداية المشوار؟