رأي.. "التعامل مع التحولات السياسية في العالم.. أزمة بحد ذاتها"
هذا المقال بقلم د. عامر السبايلة، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
يعترف كثير من السياسيين الدوليين المخضرمين، بصعوبة فهم طبيعة السياسية و ديناميكيتها في منطقة الشرق الاوسط ، من زاوية معادلات المنطق و حساباته الثابتة. ففي الشرق الاوسط خصوصاً، غالباً ما يتخلى المنطق عن طبيعة تطور الاحداث المستمرة غير المنتهية. لدرجة أن كثيراً من الدبلوماسيين الاجانب يتندرون بالقول انهم بمجرد وصولهم الى المنطقة، يسمعون عبارة لافتة :" لقد وصلت في لحظة تاريخة من عمر المنطقة". ويغادرون و هم يسمعون عبارة :" انت تغادرنا في خضم احداث تاريخية ولحظات لن تتكرر".
بنيت العلاقة بين الاطراف الرئيسية في المنطقة منذ اندلاع الثورة الاسلامية في ايران، على فكرة تحزب العرب في عداء مع ايران الفارسية ـ ابان الحرب مع العراق و ايران الشيعية "حالياًـ حتى ان الامور في الحقبة الماضية وصلت للاستعداد الحقيقي لاحتمالية توجيه ضربة عسكرية لايران. ضمن هذا المناخ تحزبت المنطقة وعاشت في حالة حرب ووعيد وتهديد مما عزز فكرة العداء للاخر.
من جهة أخرى، كانت اسرائيل "نتنياهو" قد بنت سياساتها واستراتيجياتها عن فكرة العداء لايران و تسويق الخطر الايراني على انه تهديد مباشر لوجودها. استغل نتنياهو حالة العزلة الدولية التي كانت تعيشها ايران، واستطاع ان يحصل على تعاطف كبير من الدول لاسيما تجاه سياسته ومواقفه. يضاف الى ذلك ان أحد أهم العوامل التي ساهمت في تسويق الرواية الاسرائيلية، هو تسيد التيار المتشدد للمشهد السياسي الايراني و تقديمه خدمات كبيرة لتيار نتنياهو عبر التصريحات النارية و التصعيد في لغة المواجهة و الوعيد، وصولاً الى تحويل منبر الامم المتحدة للحديث عن اقتراب لحظة محو اسرائيل و اقتراب تحقيق النبؤات ـ وفقاً للقناعات الدينية المسيطرة على الرئيس السابق أحمدي نجاد-ـ و فريقه الحاكم انذاك.
التحول الابرز في المشهد السياسي الشرق اوسطي، كان في قدرة ايران على انتهاج نهج جديد، و تبنى خطاب مختلف تماماً يتفق في جوهره مع طبيعة التحولات التي شهدتها السياسة العالمية و خصوصاً الامريكية. من هنا جاء الرئيس روحاني بصورة تكسر كل صور التشدد السابق، و تبنى لغة خطاب تستجيب للتحول اللافت في طبيعة تعاطي المجتمع الدولي مع أزمات المنطقة المعقدة و خصوصاً المسألة الفلسطينية المتعثرة. فبعد فشل كثير من محاولات التسوية، تولدت قناعة راسخة لدى المجتمع الدولي اليوم بأن نتنياهو و حكومته يمثلان حجر العثرة الرئيسي امام تحريك ملف التسوية الفلسطينية، بالرغم من تشكل مناخ عزل اقليمي لكافة المعطلين المحتملين للحل السياسي ؛خصوصاً أولئك المنخرطين بملف الازمة السورية (حزب الله ـ سورياـ الفصائل فلسطينية).
كثير من المراقبين بمن فيهم اليهود في اوروبا، يتلمسون حجم الازمة الدبلوماسية التي تشهدها تل أبيب لاول مرة في تاريخها. تعمق هذه الازمة الدبلوماسية لم يرتبط بحدث معين، بل بتراكمات ناتجة عن السياسة الاسرائيلية المتعنته في مختلف الملفات. لكنها بلا شك بلغت ذروتها مع بروز بوادر انجاز الاتفاق النووي الايراني.إلا أن توقيع الاتفاق الايراني النووي أظهرتحولات لافتة على صعيد شكل و نمطية الحراك السياسي في المنطقة،و وضعت الجميع امام امتحانات جديدة.
الليونة السياسية العامل المفقود لدى حلفاء الولايات المتحدة.
من الصعب التكهن بشكل التحولات القادمة في المنطقة. الا ان طبيعة التحول في علاقة المجتمع الدولي مع ايران؛ يعني باختصار ان العلاقات القادمة لا بد ان تبنى على التقارب لا التصادم ،مما يعني أيضاً ان على جميع الانظمة التي بنت استراتيجيتها على فكرة الحرب و التصعيد ان تعيد النظر في سياسات التصعيد، و تبحث بجد عن تبنى سياسات مرنة تختلف جذرياً عن سياسات التي اعتادت عليها في الحقبة السابقة.
الحقيقة ان الازمة السياسية الناتجة عن التحول في السياسة الدولية، و كسر كثير من "التابوهات" التي بنيت عليها السياسة الخارجية الامريكية في التعاطي مع بعض المسائل و الدول كـ(كوبا، ايران على سبيل المثال) بدأت تُظهر نتائجها و انعكاساتها بصورة واضحة في عدة دول. إذ قد تكون بعض الدول العربية خصوصاً تلك التي عرفت بدول "المحور الامريكي" اكبر المتضررين، لكن بلاشك تظهر تجليات الصدمة في اسرائيل بصورة اعمق و اكبر.
اقرار اللاعبين الدوليين بضرورة ايجاد حلول سياسية لأزمات المنطقة و خصوصاً الازمة السورية، يقود ضمناً الى ضرورة التعامل مع الازمة الرئيسية "التسوية الفلسطينية". هذا ما قد يفسر الحراك الجديد الذي بدأ يتشكل في أروقة الامم المتحدة و طبيعة تعامل المجتمع الدولي مع حكومة نتنياهو و رمزية الزيارة التضامنية الاخيرة للقنصل العام الامريكي "Donald Blome" لقرية دوما في نابلس، و لقاءه بالناجين من عائلة الدوابشة الذين تعرضو لحادثة حرق من قبل مستوطنيين.
على الارض في اسرائيل يبدو ان حكومة نتنياهو ترفض هذا الواقع، لا بل انها باتت تتبنى سياسة مبنية على المناورة و رفض الانصياع للتحولات السياسية الاخيرة. في ورقة طرحها مركز الامن القومي الاسرائيلي و تتحدث عن تحديات حقيقية تواجهها اسرائيل ظهرت حالة واضحة من التخبط السياسي في البحث عن خيارات للتعامل المستقبلي مع الواقع الجديد، لكنها في جوهرها كانت تفترض ضرورة التعامل مع التحولات السياسية و الامنية في المنطقة بعيداً عن الغطاء السياسي الامريكي. و تجلى ذلك بانتهاج فكرة استعراض القوة و اظهار قدرة خوض الحرب مع ايران بصورة منفردة من قبل اسرائيل.
الخيارات امام نتنياهو تنحسر، مما يعني تفاقم الازمة الدبلوماسية و السياسية الامر التي يتعامل معها نتياهو في محاولة لاحداث خرق في جدار العزلة عبر تقوية قواعده في اوروبا مجدداً بدءً من ايطاليا التي يوليها "بيبي" اهتماماً شديداً خصوصاً بعد اعتراف الفاتيكان بدولة فلسطين في مايو الماضي. فقد تم تعيين احدى الصحفيات المتشددات لاسرائيل "Fiamma Nirenstein" ـ و التي سبق لها ان انتخبت كعضو في البرلمان الايطالي كسفيرة لاسرائيل في روماـ و بات منسوب الكيمياء بين رئيس الوزراء الايطالي "Matteo Renzi" و نتنياهو في ارتفاع مستمر لدرجة ان نتنياهو قرر زيارة رئيس الوزراء في مدينته الام "فلورنسا" و ليس في العاصمة السياسية روما. اما الخيار الاخر امام ازمة نتنياهو فقد يتمثل في الهروب الى الامام عبر افتعال مناوشات محدودة او التلويح في فتح جبهات قتالية في الجنوب او الشمال؛ للهروب من استحقاقات التسوية السياسية و ضرورة الانصياع لفكرة التسوية السياسية.
لكن، يبقى الاخفاق في التعاطي مع حجم التحولات السياسية و عدم القدرة على مواكبتها أحد أهم عوامل تجذير الازمات التي قد تنفجر في اي لحظة بوجه اصحابها.