عمرو عادلي يكتب عن جدوى التصالح مع الفاسدين في مصر
هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
تخيل لو أقدمت الحكومة المصرية على التصالح مع الرئيس الأسبق محمد مرسي وقيادات الإخوان المتهمة معه بالتخابر مع قطر وإفشاء أسرار الأمن القومي مقابل مبالغ مالية يؤدونها على سبيل الغرامة والتعويض عن الأضرار التي لحقت بالدولة. وسيكون مثل هذا التصالح بابا لزيادة حصيلة الخزانة المصرية من الأموال، خاصة وأن داعمي الإخوان سيسددون المبالغ راضين، كما سيدعم عملية المصالحة السياسية بما تأتي به من استقرار سياسي ودعم من ثم لجذب رؤوس الأموال الأجنبية وزيادة معدلات الاستثمار.
قد تبدو الفقرة الأولى من هذا المقال عبثية ولكنها لا تزيد عبثا عن حديث الحكومة مؤخرا عن قرب صدور قانون بتعديلات قانون الكسب غير المشروع بما يبيح التصالح، والذي بمقتضاه ستتمكن الحكومة من تسوية هذا النوع من قضايا الاستيلاء على المال العام مع مسئولين حاليين أو سابقين بالدولة بمن فيهم المحكوم بإدانتهم بأحكام غير باتة، وذلك مقابل رد المبالغ المالية بأي صورة كانت التي تم التحصل عليها بشكل غير مشروع، وهو الخيار الذي أعلنت الحكومة أنه سيحقق عائدا ماليا للخزانة يفتح الطريق أمام استرداد الأموال المهربة من رموز نظام مبارك، كما أنه سيدعم الاستقرار الاقتصادي ويجذب الاستثمار.
***
لا يهم أن يكون مثل هذا القانون المشبوه سابقة صادمة في التاريخ القانوني والتشريعي والسياسي في مصر، والذي لم يكن متصورا أن تقوم الدولة فيه بالتصالح مع المسئولين الفاسدين والمدانين بتهم الكسب غير المشروع، وكان التصالح مقتصرا على حالات كالتهرب الضريبي أو النزاعات مع المستثمرين، أما أن يفلت المسئولون من العقاب، وأن يكتفى بأن يردوا المبالغ التي استولوا عليها من استغلال نفوذهم أو من نهبهم للمال العام فلم يكن متصورا قط أن يأتي اليوم الذي ترضى فيه الدولة وممثلوها عن تفكيك نفسها بهذا الشكل، وتخفيض المخاطر التي يواجهها المسئولون الفاسدون بحيث يصبحون فحسب عرضة لرد ما نهبوه من أموال دون إنزال عقوبة بهم جزاءا على خيانتهم للأمانة وانتهاكهم للصالح العام وتحويلهم إياه إلى مصالح خاصة. وذلك لأن رد الأموال المنهوبة ليس عقوبة حقا.
فإذا كانت سلسلة قوانين التصالح مع المستثمرين في قضايا الاستيلاء على المال العام من بعد ٢٠١١ تبرر انتهاك سيادة القضاء وتنحية القانون جانبا بالحاجة لبث الطمأنينة في أوساط المستثمرين الأجانب والمحليين بغية إعادة رؤوس الأموال للاقتصاد فما هو مسوغ إهدار القانون في التصالح مع المسئولين المدانين بالكسب غير المشروع؟ هل الغرض هو تشجيعهم وغيرهم على المزيد من نهب المال العام؟ أم أن الغرض هو التعامل معهم على أنهم رجال أعمال يشغلون مناصب عامة كالمستثمرين ولكن داخل جهاز الدولة؟
إن الإدعاء بأن التصالح في قضايا الكسب غير المشروع سيسهل من الوصول للأموال المهربة بالخارج والتي عجزت أجهزة الدولة المصرية عن الوصول إليها على مدى السنوات الخمس الماضية لهو إدعاء فارغ من أي مضمون ذلك لأن استعادة الأموال المهربة بالخارج يرتهن بإثبات الجريمة وإصدار أحكام بالإدانة ثم الشروع في استخدام تلك الأحكام لاستعادة الأموال، أما في حالة العجز عن تتبع الأرصدة المهربة وعدم إصدار أية أحكام إدانة فما الذي يجبر المسئولين الفاسدين على إعادة أموال اقترفوها لم يثبت استيلاؤهم عليها أصلا؟
***
قبل قرون عندما كانت مصر جزءا من الدولة العثمانية كان السلطان يقوم عادة ببيع المناصب العامة لمن يدفع أكثر فيأتي أحد الباشوات أو المماليك أو كبار التجار فيشتري امتياز جمع الضرائب في منطقة زراعية أو يحصل على امتياز تحصيل الجمارك في ثغر من الثغور، ويسدد مبلغا ماليا مقدما للسلطان حتى يصدر له فرمانا بالامتياز يتلوه تعويض ما دفعه من خلال استغلال منصبه العام أو الرسمي لمراكمة ثروته الخاصة، ولعل في هذه الممارسة التي طالت لقرون أثرة باقية في استغلال المناصب الرسمية في الكثير من البلدان العربية لبناء إمبراطوريات مالية خاصة للمسئولين الحكوميين، ولعل أهم ما يميز هذا المنطق أن المنصب الرسمي في الدولة لا يعتبر هنا منصبا عاما بل هو منصب خاص، لأن الدولة في هذه الحالة لا تمثل الشعب أو المصلحة العامة بقدر ما تمثل مصلحة السلطان في جمع المال على المدى المباشر من خلال بيع المناصب، وكلها مفاهيم أسقطها ظهور الدولة القومية الحديثة، والتي من المفترض أن بيروقراطية الدولة المصرية تتمثلها.
إن التصالح مع الملامح العثمانية في البيروقراطية المصرية والتسليم بأن المناصب الحكومية تكأة للاستيلاء على المال العام، والإفلات من هذا بلا عقاب اللهم إلا الاضطرار لرد جزء أو كل ما تم نهبه يصنع جهازا إداريا لا يمت للحداثة بصلة، ولا يمكن التعويل عليه بأي شكل من الأشكال لجذب الاستثمار أو تهيئة المناخ لممارسة اقتصادية حديثة، بل إنه جهاز يصلح لقيادة مصر للعودة إلى العصر العثماني، وفتح المجال أمام خصخصة الدولة ذاتها بحيث تكف عن حتى الإدعاء بأنها تمثل المصلحة العامة أو حتى تتوخاها.
إن قانون التصالح في قضايا الكسب غير المشروع مهزلة بجميع المقاييس، ولا يمكن أن يعد ولو من بعيد جزءا من إصلاح الجهاز الإداري أو تهيئة المناخ للانطلاقة الاقتصادية، وهو اعتداء صارخ وغير مسبوق على التراث الدستوري المصري بل وعلى تراث الدولة الحداثي كما أنه اعتداء إضافي على القضاء بتحييده جانبا بينما تتصدى السلطة التنفيذية للتصالح مع المسئولين المدانين بنهب المال العام.