مصطفى كامل السيد يكتب عن ما لم يتعلمه المصريون من شرق آسيا
هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لدى كبار المسئولين في مصر معتقدات ثابتة، هى الإطار التحليلي الذى يلجأون إليه لتفسير ما يجرى في العالم من تطورات، ومهما حدث في العالم من تغيرات جوهرية يظل هذا الإطار التحليلى على حاله، ومن ثم لا يصلون إلى قناعات جديدة، ويكررون نفس السياسات، أو يعودون إلي سياسات كانت مناسبة في أوقات ماضية. يختفي الاتحاد السوفيتي مثلا، وتحل مكانه روسيا الاتحادية، التى لا يحكمها حزب شيوعي، ولا تسعي لمناهضة الإستعمار، ويمر اقتصادها بأزمات خطيرة، ومع ذلك نتعامل مع روسيا الإتحادية كما لو كانت ستغدق علينا أسلحة متقدمة، ومحطات نووية، وتكنولوجيات صناعية بلا مقابل أو بشروط زهيدة، كما كان حال الإتحاد السوفيتي في الخمسينيات والستينيات. وتنهض دول شرق آسيا، وينهمك علماء الاقتصاد والاجتماع والسياسة في دراسة أسباب نهضتها، وبدلا من أن نحاول التعلم منها، فلأننا إختزلنا أزمة التنمية لدينا في انخفاض معدل الإستثمار، وكأنه لا علاقة لهذه الأزمة بغياب الأولويات لدينا بالنسبة للمشروعات الأجدى للإقتصاد، وبعدم التنسيق بين المسئولين عن قرارات التنمية، وتدهور رأس المال البشري. تقتصر توقعاتنا منها على أن تسهم، في وقت تمر فيه إقتصاداتها هى الأخرى بأزمة انكماش، بحقن استثمارات ضخمة في اقتصادنا الذى يعاني من إنخفاض معدل النمو، ومن نمو مشوه حتي عندما ينصلح حاله. ونغفل الحكمة العميقة التى يلقنها الصينيون لأبنائهم : أنك إذا أردت أن تساعد إنسانا جائعا، فلا تعطه سمكة، وإنما علمه كيف يصطاد. يذهب مسئولونا إلي بلادهم، وإلى جيرانهم الناجحين الآخرين، لطلب السمكة في صورة إستثمارات ومنتجات، ولا نريد أن نتعلم الصيد.
الذى يجب أن نتعلمه من هذه الدول وغيرها ممن يشار إليها بالنمور الآسيوية من الجيلين الأول والثاني هو أسباب نجاح التنمية فيها، وهو تحديدا مالا يلتفت إليه مسئولونا عندما يزورون هذه الدول. وسوف أذكر أربعا من أسباب النجاح وهى الإهتمام بالتعليم، والاتباع الصارم لأسلوب التخطيط في دفع النمو المتوازن للإقتصاد، وإرتفاع مستوى الإدخار والإستثمار المحليين، ووقف تيار الهجرة للمدن الكبرى.
التعليم
نهضة التعليم في دول شرق آسيا هى قصة معروفة على مستوى العالم. المدرسة الثانوية في كل من سنغافورة وكوريا الجنوبية هى من أفضل المدارس على مستوى العالم، وتتفوق بكل تأكيد على المدرسة الثانوية في الولايات المتحدة الأمريكية. ووجه التفوق هو فيما يتحصله الطالب فيها في العلوم الطبيعية وتحديدا الفيزياء والرياضة وكذلك في المعلومات العامة. فتحتل شنغهاي في الصين مع سنغافورة المكانتين الأولي والثانية في العالم في تعليم الرياضيات والعلوم وتتراجع الصين إلى المكانة الثالثة في تعليم القراءة لتقفز كوريا الجنوبية إلى المقدمة، وتتقهقر الولايات المتحدة للمكانة الحادية والثلاثين في تعليم الرياضيات والرابعة والعشرين في تعليم العلوم والحادية والعشرين في تعليم القراءة ، ولا تظهر مصر بين الدول الخمسين التى إقتصرت عليها قائمة منظمة التعاون الإقتصادى والتنمية. وتظهر جامعتان في سنغافورة بين الجامعات الخمسين الأفضل في العالم بالمكانتين الثانية والعشرين والتاسعة والثلاثين، وتحتل الصين ثلاث مواقع منها إثنتان لجامعتين في هونج كونج (28 و46) وموقع لجامعة تشينجوا (47) ، وتظهر كل من جامعتي بكين وفودان في المرتبتين السابعة والخمسين والحادية والسبعين. وتظهر جامعة واحدة في كوريا الجنوبية في هذه القائمة (31). وعلى الرغم من أن الصين هى أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، فإن الجامعات الصينية لا تعاني من إكتظاظ الطلبة لأن كل جامعة تحدد العدد المطلوب من الطلبة الجدد وفقا لإمكانياتها، ولا تفرض عليها أى سلطة تجاوز هذا العدد.
الإهتمام برأس المال البشري هو سر نجاح التنمية في هذه البلدان خصوصا من يفتقر من بينها للثروات الطبيعية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية. ولذلك أدركت قيادات هذه البلدان أن تقدمها يتوقف على حسن إستخدامها لما تملكه من ثروة بشرية فتصقلها بالتعليم والتدريب. اما نحن فقد تراجع مستوى التعليم لدينا. مستوى تحصيل الرياضيات والفيزياء لدينا أصبح من أدني المستويات في الوطن العربي بل وفي الشرق الأوسط. تسبقنا تونس ولبنان وتركيا بل وحتي سوريا قبل إنهيار مؤسساتها كلها بسبب الحرب الأهلية الجارية على أراضيها. لا حظوا أعزائي القراء أن الرئيس السيسى لم يصطحب في رحلته الأخيرة هذه أيا من وزراء التعليم: العام أو الفني أو العالي. وهو ما يؤكد أن التنبه لدور التعليم في نهضة هذه الدول لم يكن من موضوعات الاهتمام في هذه الزيارة.
التخطيط
طبعا اقتصادات هذه الدول هى إقتصادات منفتحة علي السوق، ولكن هذا لم يعن بالنسبة لها تخليها عن أسلوب التخطيط. إستراتيجية التنمية في الصين تعتمد علي خطط خماسية نفذت منها الصين حتي الآن أكثر من إثني عشرة خطة، ويعود نجاحها في التحول إلى دولة عظمي إلى إستراتيجية التنمية فيها منذ السبعينيات في القرن الماضى والتى إستهدفت تحديث أربع مجالات كبرى هى الزاعة والصناعة والعلم والتكنولوجيا والصناعات الدفاعية. وقد رأى العالم في العرض العسكرى في بكين الآفاق المتقدمة التى بلغها نجاح الصين في المجالات الثلاث الأخيرة. لم يكن هذا النجاح بسبب أفكار عبقرية خرج بها رئيس الدولة في الصين أو في كوريا، ولكنه بالتخطيط الواعي والواقعى والمرن، وبالإنتقال الدؤوب من مرحلة في التصنيع إلى مرحلة أخرى، وبروح الفريق التى تميز هذه الدول. الخطة ملزمة لكل مؤسسات الدولة، ورئيس الدولة والحكومة وكافة المؤسسات لا تخرج عنها. طبعا أسلوب التخطيط هو ليس التخطيط المركزى الصارم في كل القطاعات، ولكنه التخطيط التأشيرى الذى يستخدم أدوات السوق ويستعين بالحوافز لجذب الشركات الخاصة والأجنبية للإسترشاد بأهداف الخطة التى تضعها أجهزة الدولة. وقد كان لي حظ زيارة بعض هذه المؤسسات في كوريا الجنوبية. لاحظوا مرة أخرى أن الصديق العزيز الدكتور أشرف العربي وزير التخطيط لم يكن بين من رافقوا الرئيس السيسي في هذه الزيارة. لم يكن التعلم من أسلوب التخطيط في هذه الدول ودوره في نجاحها الإقتصادى واردا أمره في الإعداد للزيارة.
مستوى الادخار والاستثمار المحليين
تتميز كل دول شرق وجنوب شرق آسيا بالمستوى العالي بل والمذهل من الإدخار والإستثمار المحليين والذى قد يتراوح بين 33-52% من ناتجها المحلي الإجمالي، بينما تراجع في مصر في السنوات الأخيرة من 18% في سنة 2010 إلي 13% في 2013. ولذلك أمكن لهذه البلدان أن تعتمد بدرجة كبيرة في مراحل نموها الأولي على ما تستطيع تعبئته من مواردها المحلية مع تباينات بين هذه الدول. الصين مثلا لم تكن تحظي في السبعينيات بتدفقات كبرى لرؤوس الأموال الأجنبية، واستفادت كوريا الجنوبية من المعونات الإقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، ولكن الذى مكّن هذه الدول من مواصلة نموها ليس هو تدفق الإستثمارات الأجنبية في المحل الأول ولكن ضخامة ما استطاعت استخدامه بكفاءة من مواردها المحلية. ولذلك كانت إستجابة الشركات الدولية للسياسات المنفتحة في هذه الدول هى إستخلاصا من درس نجاح الشركات الخاصة المحلية في هذه الدول والتى أصبحت بدورها شركات عالمية، وللمستوى الرفيع من مهارة اليد العاملة فيها. ولهذا السبب أيضا استطاعت هذه الدول التغلب سريعا على آثار الأزمة الإقتصادية في شرق آسيا في سنة 1997 والتى إقترنت بانسحاب الإستثمارات الأجنبية من بعضها وتجنبت كل من سنغافورة والصين هذه الأزمة تماما. ستقولون لي أيها القراء أن وزير الإستثمار كان في صحبة الرئيس في هذه الزيارة، وأقول لكم أنه وفقا للتقارير التى خرجت عن هذه الزيارة كان إهتمامه الأول هو باجتذاب المستثمرين المحتملين في سنغافورة والصين وإندونيسيا للقدوم إلى مصر. رفع مستوى الإدخار في مصر ربما يكون مسئولية الحكومة ككل، ولكن الوزير المسئول عنه مباشرة هو وزير المالية، هو أيضا لم يكن ضمن الوفد المصاحب للرئيس.
مواجهة قضية الهجرة من الريف إلى المدينة
وأخيرا معظم دول شرق وجنوب شرق آسيا تعاني من كثافة سكانية مرتفعة، ولكنها باتباع سياسات التنمية المتوازنة التى لا تهمل الزراعة ولا أوضاع سكان الريف نجحت بدرجة كبيرة في خفض بل وأحيانا وقف تيار الهجرة من الريف إلى المدينة. ولذلك لم تتضخم عواصمها، وحتي في الحالات التى حدث فيها ذلك لم تفكر أى منها في الهرب من العاصمة التاريخية إلى عاصمة أخرى تسميها إدارية أو جديدة أيا كانت التسمية. بل إهتمت بتحسين الأوضاع في عواصمها التاريخية. مازالت بكين وسيول وجاكارتا هى عواصم الصين وكوريا الجنوبية وإندونيسيا. ولا نسمع عن مجرد تفكير في البحث عن بديل لهذه العواصم. بل ومازال حكام الصين يقيمون في المدينة المسورة كما كان يفعل حكامها في سابق العصور.
أحزنني كثيرا أن فكرة العاصمة الإدارية في مصر مازالت شغلا شاغلا للرئيس، وبحث معاونوه كيف يمكن إجتذاب الشركات الصينية للمساهمة في بنائها في مصر. هكذا نرى أننا لا نتعلم حقا من التجربة التاريخية في شرق آسيا التى نقلت دولها لتكون في صدارة الدول التى تقهر التخلف بكل أبعاده. كما قلت لكم: مسئولونا يريدون السمكة ولا يريدون لنا أن نتعلم الصيد.